إعرف عدوّك‏

بقلم: أديب كريّم‏

قراءة في ملف‏ رواد الحركة الصهيونية

لكي يتسنى لنا فهم أحداث الحاضر بكل تداعياتها وأصدائها، ولكي يُصار الى إمتلاك القدرة على التحكم الفعلي - أو على الأقل المشاركة الفعلية - في دفع عجلة الأمور الى ما نعتقد أنه الصواب، وجب علينا، ومن موقع الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية والجهادية، العمل على استيعاب تجربة التاريخ بكل دروسها المفصلية وملامحها الكبرى، وتخزينها في وعي تجربتنا الراهنة كمعلم حي ودائم، وذلك انطلاقاً من حقيقة تاريخية مفادها أن التاريخ مهما تقادمت أحداثه وصراعاته فإن فعلها لا ينقطع في الحاضر والمستقبل. ولما كان كل صراع تاريخي مسكون بخصائص محددة ومشحون بعناصر مادية وقيمية معينة، فإن صراعنا مع الكيان اليهودي الغاصب لا ينفك يؤكد على ذاتيته الشمولية الإنسانية وخاصيته المفاهيمية والحقائقية المجردة وجذوره العميقة، ومن هنا فإن محاولات تلمس الطريق الى التعرف على حكومات ومرتكزات ذلك الكيان المصطنع تستوجب بالضرورة المنطقية والموضوعية التنقيب والبحث في التاريخ لمعاينة البذور الموبوءة التي إنغرست في تربته وأنبتت هذه الشجرة الخبيثة. ولعلنا لا نغامر بمجافاة الحقيقة، إذا قبلنا أن الحركة الصهيونية، التي أطلت برأسها في أواخر القرن التاسع عشر كإطار تنظيمي مكتمل، قد جسدت إحدى أبرز المحطات في التاريخ الحديث، لجهة إعادة إحياء المدفون من الإرث التوراتي اليهودي، وتفعيله في مجرى الصراع الرئيسي في المنطقة على نحو أخص، كما هو معروف، الى إقامة كيان غريب في قلب العالم الإسلامي.
ومهمتنا في هذه العجالة تتلخص في استحضار أبرز ملامح المناخ الفكري، الذي شهده النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذي هيأ الظروف لدور الحركة الصهيونية، ولا نحسب أن المقام يسمح لنا لولوج هذه المسألة بأسلوب البحث التاريخي الموسع الذي يأخذ على عاتقه تسليط الضوء على أكثر من زاوية وجهة من ساحة الأحداث وحيثياتها - يهودياً أو أوروبياً -. لذا فإننا إكتفينا بالحديث عن أهم رائدين من رواد الفكر الصهيوني، واللذان كان لهما الفضل الأكبر في بلورة المشروع الصهيوني فكرياً وروحياً، والذي التمسه تيودور هرتزل في مراحله التطبيقية.
والرائدان هما: »موسى هس« و»احاد عاهام«.
موسى هس: ولد عام 1812 في مدينة بون في المانيا، تلقى تربية دينية على جده في طفولته، درس في مرحلة شبابه الفلسفة في جامعة بون. كان صديقاً ل »كارل ماركس« وجمع بينهما اقتناعهما بالفكر الإشتراكي. كان هذا في مرحلة تفتحه على المناخات الفكرية التي كانت سائدة وقتذاك. ومع بداية عقد الخمسينات تراجع هس عن أفكاره الإشتراكية وتحول الى دراسة اليهود واليهودية، وفي سنة 1862 أصدر كتابه الشهير »روما والقدس« الذي ضمنه اراءه حول الواقع اليهودي، هذه الاراء التي شكلت إحدى أهم ركائز الحركة الصهيونية لاحقاً. وقد عبر هس في كتابه عن تحوله الى اليهودية بقوله: »لقد تبين أن العاطفة التي ظننت أني قد كبتُّها عادت الى الحياة من جديد، تأججت هذه العاطفة نصف المخنوقة في صدري محاولة التعبير عن نفسها« ويضيف في توصيف هذه العاطفة على أنها »التفكير في قوميتي التي ترتبط برباط لا تنفصم عراه بتراث أسلافي، وبالأرض المقدسة، وبالمدينة الخالدة«. وأما عن اليهود واليهودية ومركزهما من هذا العالم فإن هس، الذي صنف على أنه أبرز المبشرين بالحركة الصهيونية، يقول في هذا الصدد: »إن تاريخ الإنسانية أصبح مقدساً من خلال اليهودية التي هي أساس الحضارات والأديان« و»اليهود وحدهم بين الشعوب قادرون على السمو... لأنهم يمتلكون بوحي من روح الله موهبة مميزة في الرؤى الاجتماعية، كما هي العبقرية اليونانية في الابداع الفني«. ويواصل هس تنكره لمنطق الحقائق الإنسانية والإلهية، وركونه أو استسلامه لعاطفته المريضة التي أذابت شخصيته في قالب عنصري خالص، وذلك عندما يتوجه الى بني قومه بدعوتهم للقدوم الى الشرق لتخليص شعوبه من حياة التخلف كما يزعم: »أنتم يجب أن تكونوا حملة الحضارة الى الشعوب البدائية في اسيا، وأساتذة العلوم الأوروبية التي أضاف شعبكم اليها الكثير. أنتم يجب أن تكونوا الوسطاء بين أوروبا والشرق الأقصى. إفتحوا الطرق المؤدية الى الهند والصين، تلك المناطق المجهولة التي يجب أن تفتح أخيراً أمام المدنية«. وعن »أرض الأجداد« المزعومة في فلسطين فإنه يتوجه الى اليهود، من موقعه كمفكر وفيلسوف يحظى بإحترام يهود أوروبا في تلك الحقبة، بنداء صريح بضرورة العمل للعودة الى »أرض الأجداد«. وقد عُد نداؤه هذا، بالإضافة الى ما تضمن من أفكار غاية في العنصرية والشوفينية، من أخطر النداءات التي فتحت باب التحضير الفعلي للهجرة والاستيطان في فلسطين على مصراعيه، ومما جاء فيه: »تقدموا الى الأمام أيها اليهود من كل الدول، إن أرض أجدادكم تناديكم، أواه! كم سيرتجف الشرق لدى قدومكم... أنتم سوف تصبحون الدعامة الخلقية للشرق. أنتم كتبتم كتاب الكتب )التوراة(، دعوا حكمة الشرق القديمة، دعوا كتاب زند )زرادشت(، بالإضافة الى القران، وهو أكثرها حداثة، والأناجيل، دعوها تتجمع حول توراتكم، فهذه كلها سوف تتطهر من كل خرافة...« وينهي نداءه بعبارات جوفاء يعظم فيها اليهود ويمجدهم: »أنتم قوس النصر للحقبة التاريخية المقبلة، الذي سوف يُكتب تحته عهد الإنسانية العظيم، ويختم في حضوركم كشهود على التاريخ والمستقبل...«!!
احاد عاهام: الاسم لفظة عبرية وتعني »واحد من الشعب«، وهو اسم قلمي اشتهر به، أما اسمه الحقيقي فهو »أشر غنزبرغ«. اليه يعود الفضل في تغذية الصهيونية بالمضامين الثقافية والروحية العنيفة. ولد عام 1856 في كييف لأب »حسيدي«(1) متدين، تعمق في دراسة التلمود والفلسفة الدينية بشكل عام. عُرف عن تاريخه الثقافي بأنه كان من أكثر الذين تعلقوا بالتراث الثقافي اليهودي. اشتهر في بداية حياته العملية بأول مقال كتبه تحت عنوان »الطريق الخطأ«، وفيه توجه بالنقد القاسي الى سياسة الاستيطان التي كانت متبعة في فلسطين، وحسب رأيه فإن عملية الاستيطان تتم عن طريق إغراء المدفوعين الى الاستيطان بمكاسب ذاتية وهمية، وبدلاً من ذلك يجب العمل على إيقاظ الروح اليهودية العنيفة في ثقافة المهاجرين، وإذا كان حبهم لصهيون، وتعزيز القوة المعنوية لديهم ليستطيعوا مواجهة صعوبات الحياة التي تجابههم في »أرض الأجداد«، ولم يكتف بعد ذلك بنقد الأسلوب الاستيطاني المتبع عبر المقالات والنداءات، بل اثر الذهاب الى فلسطين لتقديم النموذج الأمثل )حسب اعتقاده( للعمل الإستيطاني، وذلك بإنشائه لتنظيم سري سُمي »بني موسى« وكان هو بمثابة مرشده الروحي.
تميز بتعلقه بالتعاليم التلمودية خصوصاً تلك التي تدعو الى التشدد العنفي في معاملة غير اليهود. وأفكاره العنصرية العنيفة شكلت المحرك الرئيسي لظهور العصابات الإرهابية العسكرية )شترن - أرغون - هاغانا( التي ارتكبت أفظع المذابح بحق أهل فلسطين تمهيداً لاقامة كيانهم العنصري. وقد ذهب عديد من البحاثة الغربيين الى أن كتاب »بروتوكولات حكماء صهيون« الذي خضع للدراسة بعد ترجمتها الى الانكليزية، قد وضعه احاد عاهام، والدليل الذي استندوا اليه هو التطابق الكبير بين الأفكار التي نشرها في مقالاته وكتبه العلنية والأخرى التي إحتوى عليها كتاب البروتوكولات. ويُعد هذا الكتاب، صحت اراء البحاث أم لم تصح، من أرذل وأحط ما سُطر من كتب عنصرية في التاريخ القديم والحديث.
وكتب »حايم ويزمن«، الذي يفتخر بكونه تتملذ على احاد عاهام، في مذكراته واصفاً شخصية استاذه بالعبارات التالية: »عرفته منذ سنين خلت أولاً بإسمه وشهرته الفكرية والكتابية، وهو عامل من العوامل الفعالة في صياغة حياتي« »فاكتشفت شخصيته عن كثب، شخصيته التي تركت أثراً واسعاً في الجيل الحديث من أحباء الصهيونية...«.
وفي عام 1906 كتب مقالة مشهورة ضمنها نداءه العاطفي، وخرافة القومية اليهودية، والعودة الى »أرض الميعاد« المزعومة. حيث يقول ما نصه: »أشرق فجر الفكرة الجديدة في ذكريات أرضنا التاريخية، التي أصبحت يوماً بلا حياة، ومجرد ذكرى في كتاب، فإذا بها تصبح من جديد قوة عاطفية حية، يستيقظ مع انبعاثها حبُنا لتراثنا كله...
إذا قلنا أن هؤلاء الرجال قد أقروا أن لنا أرضاً قومية، نرنو الى العودة اليها فعلاً، لا بالصلاة وحدها، فنحن إذاً نعترف، ونريد غيرنا أن يعترف بأننا حقا شعب، لا مجرد طائفة دينية، فإذا كنا شعباً، فإنه يجب أن يكون لدينا روح قومية نتميز بها عن سائر الشعوب، كما يجب أن نقدرها ونحميها كما يفعل كل شعب اخر مع قوميته. وإذا كنا نقدر في لغتنا القومية وأدبنا، حيث اختزن كل جيل كنوزه الروحية مخلفاً إياها لمن يرثها من بعده... هكذا ابتدأ )أحباء صهيون( بإعطاء النبض للانبعاث الروحي«.
والانبعاث الروحي الذي يبشر به احاد عاهام لا يعدو كونه إنبعاثاً لعنصرية قاتلة، وكولونيالية محملة بكل أدران الخبث والكراهية والفوقية اللاخلاقية. ويبقى المهم لدى احاد عاهام وأضرابه من رواد الحركة الصهيونية، إشباع نزعتهم العنصرية مهما كانت الأثمان الأخلاقية والإنسانية باهظة. وهذا الانبعاث يتحدث عنه احاد عاهام في مقام اخر بقوله: »الخير هو للإنسان الخارق والأمة الخارقة التي تملك القوة... والتي تمتلك الإرادة لتصبح سيدة العالم، بغض النظر أن هذا سيكلف الشعوب والأمم الفقيرة غالياً، وبغض النظر عن العواقب التي ستحل بهم، فالإنسان الخارق والأمة الخارقة هما المدارة والهدف للجنس البشري، أما بقية الشعوب فقد خلقت لتكون خدماً من أجل تحقيق هذا الهدف، خدماً على السلم الذي يتم تسلقه الى القمة«!!.
(1) »الحسيديون« بالعبرية »حسيديم« ومعناها المتدينون. والحسيدية أو الحصيدية مذهب يهودي باطني متزمت، إنتشر في القرن الثاني ق.م.

 

الصفحة الرئيسية

صفحة الانتصار

admin@albehari.net