تراث خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله

قال تعالى : (هو الذي بعث في الاُميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[1].

لقد تجلت لنا ـ من خلال دراسة التاريخ الاسلامي ـ الثمار العظيمة لهذه البعثة الإلهية لخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله) حيث أسفرت نبوته عن:

1 ـ رسالة إلهية شاملة قام بتبليغها الى البشرية عامّة.

2 ـ اُمّة مسلمة تحمل مشعل الرسالة وعبير النبوة الى سائر الاُمم.

3 ـ ودولة اسلامية ذات كيان سياسي مستقل ونظام إلهي فريد.

4 ـ وقيادة معصومة تخلف الرسول القائد وتمثّله خير تمثيل.

واذا قصرنا النظر على التراث المسموع أو المكتوب والمدوّن وكان تعريفنا لتراث الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) بأنه: كل ما قدّمه الى البشرية والاُمة الاسلامية من عطاء مقروء أو مسموع، فينبغي لنا أن نصنّف ما قدّمه إليهم الى:

1 ـ القرآن الكريم .

2 ـ السنّة الشريفة.

ويشترك العطاءان بأنهما من فيض السماء على الانسان بتوسط هذا الرسول الكريم. فهما وحي الله على قلب محمد (صلى الله عليه وآله) الذي لم ينطق عن الهوى.

ويتميّز القرآن الحكيم أولاً بأن شكله ومحتواه (نصّه ومضمونه) معاً من الله تعالى، فالصياغة إلهية معجزة كما أنّ مضمونه كذلك. على أن جمعه وتدوينه ـ كما هو الصحيح والثابت تأريخياً ـ قد تمّ في عصر الرسول نفسه وقد تواتر إلينا نصّه بشكل كامل غير محرّف.

والوثائق التأريخية الدالّة على تدوين النص القرآني في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) غير قليلة، نكتفي بنص قرآني وآخر غير قرآني على ذلك.

فالأول: قوله تعالى: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً)[2].

والثاني: ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قال: «... ما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت من كتاب الله ولا علماً أملاه عليّ وكتبته منذ دعا لي بما دعا»[3].

والمسلمون جميعاً متفقون على أن النبي (صلى الله عليه وآله) بلّغ القرآن كاملاً، وأن القرآن المتداول اليوم بين المسلمين هو الذي كان متداولاً في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) لم يُزَد فيه شيء ولم ينقص منه شيء.

وأمّا السنة الشريفة والحديث النبوي، فهو بشريّ الصياغة إلهيّ المضمون، ويتميّز بالفصاحة الكاملة وتتجلى فيه عظمة الرسول وكماله وعصمته والتسديد الإلهي له.

ومن هنا كان القرآن الكريم هو المصدر الأوّل للتشريع والينبوع الاساسي للمعرفة التي تحتاجها البشرية على مدى الحياة. قال تعالى: (قل إنّ هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من وليّ ولا نصير)[4].

واعتبر القرآن الكريم السُنّة الشريفة ثاني مصدر للتشريع الربّاني حيث اعتبرت سنّة النبي الكريم مصدراً تشريعياً تالياً للقرآن باعتبار النبي(صلى الله عليه وآله) مفسّراً للذكر الحكيم واُسوة حسنة يُقتدى بها، وعلى الناس أن يأخذوا بأوامره وينتهوا عن نواهيه[5].

ولكن السنّة النبوية ـ وللأسف ـ لقيت بعد عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) وبالذات عصر الخلفاء الأوائل وضعاً سيئاً حيث أقدم أبو بكر وعمر على منع تدوين حديث الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وقاما بحرق ما دوّنه بعض الصحابة بحجة أن ذلك النهي جاء منهما ـ ومن عمر بالذات ـ حرصاً منهما على القرآن الكريم لأن تدوين السنّة والاهتمام بها يؤدي بالتدريج الى الغفلة عن القرآن أو إلى ضياع القرآن من حيث التباسه بالحديث .

ولكن أهل البيت وأتباعهم وكثير من المسلمين قد تعاملوا مع سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله) التعامل اللائق بها من الاحترام والتقديس مستلهمين ذلك من القرآن الكريم، ومن هنا أخذوا يتداولونها حفظاً وتحديثاً وتدويناً وتطبيقاً بالرغم من الحظر الرسمي للتدوين. الذي كان لسبب آخر ـ كما يبدوـ غير ما ذكر من الأسباب. حيث خالف العلماء والخلفاء فيما بعد ذلك الحظر وراحوا يحثّون على التدوين.

وأول من بادر الى تدوين السنة الشريفة واعتنى بها أشدّ الاعتناء هو ربيب الرسول(صلى الله عليه وآله) ووصيّه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). قال: «وقد كنت أدخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها، أدور معه حيثما دار. وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري... وكنت إذا سألته أجابني واذا سكتّ وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن الا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها... وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون منزلاً على أحد قبله من طاعة أو معصية الا علّمنيه وحفظته فلم أنس حرفاً واحداً...»[6].

وتمثّلت مدوّنات الامام عليّ (عليه السلام) مما أملاه عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) في ما يسمّى بكتاب علي وما يسمّى بالجامعة أو الصحيفة.

قال ابو العباس النجاشي المتوفى سنة ( 450 هـ ) : أخبرنا محمد بن جعفر (النحوي التميمي وهو شيخه في الاجازة) مسنداً الى عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر (عليه السلام) فجعل يسأله وكان أبو جعفر (عليه السلام) له مكرّماً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا بني قم فاخرج كتاب علي (عليه السلام)، فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، ففتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة فقال ابو جعفر (عليه السلام): هذا خط علي (عليه السلام) وإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل (عليه السلام)[7].

وعن ابراهيم بن هاشم مسنداً الى أبي جعفر (عليه السلام): في كتاب علي كل شيء يحتاج اليه حتى أرش الخدش[8].

وأما صحيفة عليّ (عليه السلام) أو الجامعة فهي مدوّنة اُخرى لعلي (عليه السلام) على جلد طوله سبعون ذراعاً فعن أبي بصير (عليه السلام): أنه قال له الامام الصادق (عليه السلام) فيما قال له: وان عندنا الجامعة، صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله (صلى الله عليه وآله) واملائه من فلق فيه وخط علي (عليه السلام) بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج اليه الناس حتى الارش في الخدش[9].

هذا هو موقف أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة الشريفة .

وأما الموقف الحكومي الرسمي في خلافة الشيخين فقد ترك آثاراً سلبية كبيرة حيث استمرّ هذا الحظر إلى ما لا يقلّ عن قرن واحد وأدّى الى ضياع كثير منها، وفتح الباب أمام تسرّب الإسرائيليات الى مصادر الثقافة عند المسلمين، كما وأنتج انفتاح باب الرأي والاستحسان على مصراعيه حتى غدا الرأي مصدراً من مصادر التشريع بل قد قدّمه البعض حتى على نصوص السنّة النبوية الشريفة; إذ لم يصمد كثير من النصوص أمام النقد العلمي. وهذا قد أدّى بدوره الى شحّة النصوص النبوية الصحيحة عند أهل السنّة وعدم وفائها بما تحتاجه الاُمة في عصورها المقبلة.

ولكن أهل البيت(عليهم السلام) قد وقفوا أمام هذا التيّار الجارف بكل حزم واستطاعوا أن يحفظوا السنّة الشريفة من الضياع عند المؤمنين من خلال توجيهاتهم وحسب ما تقتضيه إمامتهم وخلافتهم الشرعية فإنّ اُولى مهامّ الإمام والخليفة المنصوص هو حفظ الشريعة ونصوصها من الضياع.

ومن هنا لزم على الباحث عن السنّة النبوية الرجوع الى مصادر السنّة عند أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم فإنهم أدرى بما في البيت.

والسنة الشريفة عند أهل البيت (عليهم السلام) تغطّي جميع أبواب العقيدة والفقه والاخلاق والتربية وكل ما تحتاجه البشرية في كل مجالات الحياة.

وقد صرّح الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) حفيد الرسول الأعظم بهذه الحقيقة فقال: «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سُنّةٌ » [10].

[1] الجمعة (62): 2 .

[2] الفرقان (25): 5 .

[3] الكافي : 1 / 62 ـ 63 كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث.

[4] البقرة (2): 120 .

[5] النحل (16): 44 ،  والاحزاب (33): 21 والحشر (59): 7 .

[6] بصائر الدرجات : 198 والكافي: 1 / 62 ـ 63 .

[7] تاريخ التشريع الاسلامي: 31 .

[8] تاريخ التشريع الإسلامي : 32 .

[9] المصدر السابق : 33 .

[10] الكافي : 1 / 48 .

الصفحة الرئيسية

صفحة السراج المنير

admin@albehari.net