قصة ----- الموعِد

(1)

هُوَ ذا الظلّ بدأ. يمتدّ ويطول. ظلّ جَبَل «أبي قُبَيْس»، وظلّي أنا، وهذه الأغنام من حولي. قبل ساعة كانت الشمس فوق الرأس حارّة لاهبة. وأخذَتْ تميل الآن على مَهْل إلى الأفق الغربيّ.
أغنامي تتتبّع العشب.. تَقْضِمه وترعاه. العشب قليل.. لا يكفي للرّعي. والجبال حول مكّة خالية جرداء لا ماء فيها ولا نبات. لا أبو قُبَيْس، ولا أجْياد، ولا الجبل الأحمر. طبقات من الصّخر الأسود، وقمم شاهقة داكنة اللّون. ومثلها أغلب الأودية والشِّعاب. وعَلَيّ رغم هذا أن أرعى خِراف أهلي وأوفّر لها الأعشاب.
أمطار الموسم كانت نزرة قليلة نزلت مقطّعة متباعدة. لم ينبت بعدها من الزّرع إلاّ متناثرٌ قصير. ما في مكّة بساتين ولا مزارع ولا مراتع ترعى فيها الماشية. حتّى لو أرادوا أن يزرعوا.. من أين يأتون بالماء للسّقي ؟! بئر زمزم لا تكفي لسقي المزروعات. هي للشّرب فقط، ولحاجات البيوت والأكواخ. الآبار الأخرى قليلة ونائية.
غُنَيمات أهلي.. ما تزال تَقْضم الشّوك، أو تأكل فضلة الحشائش المبثوثة هنا وهناك. تبتعد عنّي قليلاً، وأتْبعها ببصري وهي تسرح. تلك هي أراها توشك الآن أن تختلط بقطيع أحدا الرّعاة. هو قطيعُه! صديقي من سنين. أُسْرِع إليها أذُودُها وأجمعها.. ثمّ أروح إليه. هو مثلي لم يبلغ الثامنة عشرة. أتحدّث إليه عن حرارة الطّقس، وعن الشمس الجانحة إلى الغروب. يلقاني هو بابتسامته المعهودة. ابتسامة حلوة وعينان صافيتان هادئتان. كأنّ عيونه هي التي تبتسم قبل الفم. أحبّه. كثيراً أحبّه. وأحبّ هذا الشّال الأخضر الذي أداره على رأسه، فازداد به جمالاً وهَيْبة.

(2)

لا أذكر أنّي قد تعمّدت أن أصادقه وأن أحبّه. التقينا هنا وفي شِعاب أخرى مرّات. أرعى أغنامي، وهو يرعى أغنامه. نتبادل أحياناً بعض الأحاديث. سِرّ في داخله يجذبني إليه. شيء أحلى من العسل، وأرق من النّسيم. صداقة توثّقت بيننا، كأنّا قد تعارفنا منذ زمان طويل. صداقة متغلغلة في الصّميم. فيها الوفاء، وفيها شوق اللّقاء. لا أستطيع أن أفارقه طويلاً. أحبّه. شاركته في غدائه مرّات. هو يدعوني في أغلب الأوقات.
سمعتُ أنّ جدّه كان سيّد مكّة. لا أتذكره. مات وأنا طفل صغير. شيخ صبيح المُحَيّا وقور، ذو عينين واسعتين ولحية بيضاء ناصعة البياض. ينطق بالحكمة وبالصّدق. أعاد للناس حَفرَ زمزم بعد ما غاضت ودَثرت في الزّمان الطّويل. عُلّمَتْ له في المنام. يقصده الناس لحلّ مشكلاتهم ومعالجة ما ينشب بينهم من خلاف. يجلس عند الكعبة ـ قالوا ـ على بساط ممدود له على الأرض. لا يشاركه الآخرون في الجلوس على البساط، احتراماً له ومَهابة. كلمة واحدة منه قادرة أن تفرّج أصعب المعضلات. ما مِثله في رجال مكّة من أحد. كثراً ما كان يفضّ المنازعات بأمواله الخاصّة. ويقرض المحتاجين، بما تيسّر له من مال، بدون مقابل. أصحاب الثّروة يأخذون فائدة على القرض ديناراً بدينار. ما أكثر حوانيت المُرابين في أسواق مكّة! أمّا هو.. فكان لا يهمّه إلاّ أن يشيع العدل والسّلام.
جدّه كان رجلاً من نمط خاصّ. تحسّ أنّه بعيد عنك بُعْد النّجوم، وقريب منك كأنّه في قلبك. هكذا وصفوه. أحياناً أفكّر: إنّ حفيده مثله. طالما علّمني، بفيضٍ من المودّة، أفضل الطّرق للرّعي. وهداني إلى خير الوسائل لمعالجة الكبش العنيد إذا امتنع عن اللّحاق بالقطيع. حتّى تعامله مع الخِراف فيه رأفة بمقدار ما فيه من حزم.

(3)

الظلّ ما يزال يستطيل، وتخفّ حرارة الشمس. أروح أسرح بالماشية. أطوف بها في هذه البقعة من الوادي أو في تلك. أتْبع خُطى صاحبي لأظلّ محاذياً له غير بعيد. أراه أحياناً على مسافة، يَهُشّ على غنمه ويعيد إلى القطيع الخرافَ التي انفردتْ وشذّت مبتعدة. تُطاوعه الخراف بِيُسر. أحياناً ينتحي جانباً ينظر إلى السّماء، أو يتأمّل في الأفق البعيد، باتّجاه أرض عَرَفات.
حكى لي في صباح مشرق، وقد جلسنا في ظلّ صخرة كبيرة نستريح، عن جدّه القديم إبراهيم. لا يذكره إلاّ بقوله: «أبي .. إبراهيم». حكى ذكريات طيّبة. جدّه إبراهيم باني الكعبة عند البطحاء، حيث ينخفض وادي مكّة بين الجبال. ساهَم معه في البناء ولَدُه إسماعيل. شابّاً في مثل أعمارنا كان إسماعيل. ذكرياته في «مِنى» عند الخِيف. صخرَتا الصّفا والمَرْوة.. وطفولة إسماعيل. حتّى زمزم له فيها ذكريات عابقة.
كان يحكي عن جدّه إبراهيم بتعابير عذبة يمتزج فيها الشّوق بالتوقير، بدون أدنى شائبة من افتخار أو غرور. شيئاً مُحَبَّباً كان كلامه. وشعرتُ أنّي أحبّ الكعبة والصّفا وزمزم والخيف أكثر من قبل.. كما غدوت أحبّ إبراهيم.
في بعض أوقات الغروب.. كنت أدنو منه، ونحن في البرّيّة أيّام الرّعي، فأراه كالمشغول مع نفسه. في لقاءاتي بالرّعاة الآخرين أحسّ أنّ كلامهم مثل حلقة مسطَّحة ما فيها عمق. كنت ألقاه في ساعة الأصيل كمَنْ يتلو شيئاً سِرّيّاً بينه وبين نفسه. كأنّه يخاطب كائناً غير مَرْئيّ. وألحظ في وجهه، ساعَتها، مزيداً من الإشراق والبهاء.. وقد عَلِقَت في طرف أهدابه الطويلة قطرة دمع تتلألأ، ثمّ تهوي إلى الخدّ. لا أسأله ـ حياءً منه. ثمّ إنّي لا أحبّ الفضول. دَعْه في عالمه الخاصّ.
قال مرّة.. ونحن في طريق عودتنا عند الغروب: «انظُرْ.. هوذا اللّيل يهبط، وتشتبك النّجوم. وعن قليل يأوي النّاس إلى مضاجعهم ينامون. أمّا هو.. فإنّه أبداً لا ينام. كيف ينام من لم تحمله أُنثى ولم ينجبه أب ؟! هو حاضر مع كلّ شيء. كان قبل كلّ شيء، ويبقى بعد كلّ شيء».
كنت أستمع كالذّاهل إليه. عَمَّ يتحدّث حفيد عبدالمطّلب ؟! ودخل قلبي في وقتها إحساس كالخَدَر اللّذيذ. شعرت أنّ روحي تخفّ وترتفع إلى فوق. ذُهِلتُ حتّى عن أغنامي وعن الطّريق.
قال يواصل كلامه: «يُديرون ظهورهم إليه.. ويذهبون ليركعوا أمام العُزّى وهُبَل! هو الذي أعطى. هو الذي رَزَق. هو الذي خَلَق. ويموت الميّت منّا فيرجع إليه. نحن منه.. واليه نعود. هو الذي يدبّر كائنات العالم ويوجّه الأقدار. ربُّنا وربّ آبائنا الأوّلين. ألا ترى يا أخي، كم هي حماقة جَلفة أن يُنسى وأن يُغْفَل عنه ؟! حجارة مُسْوَدّة يحملونها من قاع الجبل.. ينحتونها ثمّ يقدّسونها ويعبدونها من دونه! ضَلّة في العقل، وعَمىً في البصيرة، وانكفاء في الحياة. ما لَهُم هؤلاء الناس..؟!».
ثمّ سكت. لم يَزِد حرفاً على ما قال. داخَلَني شعورٌ أنّه قد تحدّث بأمر خطير، جدّ خطير. ولا أذكر أنّه حدّثني بعدها بمثل هذه الصّراحة. ومن حينها صرتُ أتذكّر كلامه كلّما بلغتُ الموضع الذي حدّثني فيه من الطريق. حتّى لو كنت وحدي أتذكّره، وأجد شفّافيّة في مشاعري وعذوبة تسري من حولي. كأنّ الحصى على الأرض يكاد ينطق بترنيمة مبهمة تناغي القلب وتدغدغ الرّوح.

(4)

تَخفِق الآن في الفضاء القريب أجنحة حمائم تطير. سِرْب منظَّم يطير. هي من حمائم الكعبة، ولابدّ. تدور في الفضاء دورة.. دورتين.. ثلاثاً، ثمّ تحلّق عائدة باتّجاة البيت الحرام. صُفرة خفيفة بدأت تصبغ الأفق الغربيّ. الشّمس تتغيّر هابطة في المدى البعيد. إنّ علينا، منذ الآن، أن نتهيّأ للعودة. سيحين بعد قليل أوان جمع القطيع وسَوْقه تلقاء مكّة. هو أيضاً أدرك أنّ وقت العودة قد أًزِف. حَمَل صرّته الصّغيرة، وأخذ يهشّ على خِرافه بعصاه.. يجمعها ويقودها. مَرّ بي.. وحيّاني. ثمّ سِرْنا معاً نوجّه القطيعين.
قلت له ـ وقد تذكّرت قلة النّبت والكلأ:
ـ كنتُ سمعت أنّ في وادي «فَخّ» روضة مزهرة. هل لك أنْ نذهب صباح الغد إلى هناك نرعى الماشية ؟
قال:
ـ نعم، نذهب.
قلت:
ـ إذَنْ.. موعدنا هناك.
ثمّ مضينا نسوق أغنامنا.. وقد نثرت الشّمس الغاربة صبغتها الصّفراء على حجارة الجبال وحصى الطّريق. حتّى إذا دنونا من بيوت مكّة افترقنا عند باب المُعَلّى. أمضي إلى دار أهلي. ويمضي هو إلى أصحاب الأغنام من أهل مكّة يعيدها إليهم، كعادته، عند المساء. لقد كان يرعاها لهم بأجر. ثمّ يؤوب ـ مارّاً بالكعبة ـ إلى دار عمّه.. التي يحيا فيها منذ وفاة جدّه الكبير.

(5)

كان بياض الصّبح قد بدأ ينتشر من وراء الجبال الشّرقيّة.. حين خرجتُ بأغنامي من باحة الدّار. عَلَيّ أن أسير بها محاذياً هذا الجدار الجَبَليّ الشّديد الانحدار.. وأمضي قُدُماً حتّى أبلغ نهايته، فأنعطف متّجهاً إلى وادي فخّ، حيث يقوم جبل حِراء في أعالي الوادي. هنالك موضع الرّوضة التي توعدنا لِلّقاء فيها.. أنا وصاحبي. احتفظَ الوادي، أكثر من غير، بماء المطر وبما تَحَدّر إليه من جبل السِّتار.. فاخْضَرّ بالكلأ والبرسيم. مرعىً خصيب ـ قالوا.
أتراني سأصل إلى الرّوضة قبله، أمْ يكون هو الذي سبقني إليها بقطيع الماشية ؟ تُمَعْمِع أغنامي.. جائعة. لم تأكل أمس غير قليل. ولسوف تأكل من أعشاب الرّوضة، لمّا نصل، ما تشاء. ستقضي نهاراً رائقاً وهي تنعم بالشِّبَع والرّيّ. وإذا وصل صاحبي مِن بعدي.. فلابدّ أن يَبقى من العشب ما يكفي أغنامه. ربّما سيكفي للرّعي أيّاماً وأسابيع.
واصلتُ طريقي أُلوّح للأغنام بالعصا، وأصْفِر لها بفمي أنادي ما تخلّف منها يتشمّم الأرض. أمضي بها على عجَل لنُوافي المرتع. تنقطع هنا الدُّور. ثمّ أخلّف ورائي الأكواخ النّائية المصنوعة من سعف النّخيل. ما ثمّة إلاّ أهاضيب الحجارة التي تتعرّج متلاحمة بالمرتفعات الشّرقيّة. ها أنا في ظلِّ آخرها أسير. وبعد قليل أميل إلى الوادي الموعود. مَنْ يدري.. فلربّما سألقى هناك العديد من الرُّعْيان قد جاءوا بقطعان الغنم والمعز. من الخير أن أحثّ الخطى لألحق، فأتّخذ موضعاً أرعى فيه الخراف.
انتهيتُ إلى آخر منعرج، ومضيت أقطع ما بقي من الدّرب. هي ذي! وجدتُني وجهاً لوجه أمام روضة مُزهرة خضراء، تتلامع أزهارها البريّة في هذا الضّحى تحت الشّمس. يالَها من روضة وفيرة النّبت غَنّاء! لا رُعْيان هنا ولا قِطْعان!
إنّ أحداً إلى هنا لم يَجِئ. ماثمّه إلاّ قطيع واحد يَلُوح لي من بعيد. خرافه لائذة بجانب الجبل بين الصّخور، لا تدخل الرّوضة ولا تأكل. أتوجّه في مسيري إليه.. أستطلع خبره. ما بال الأغنام لا ترعى ؟! ما جاء بها صاحبها إلاّ للرّعي.. فما باله لا يرعاها ؟! هو ذاك.. أراه يذودها ويمنعها. ألمحه من مسافة. إنّه لأمر عجيب! أغنام جائعة في أوّل الصّباح.. وتُذاد عن المرعى ؟! ما الذي يجري ؟! واقتربت منه.. حتّى تبيّنتُه. مَن ؟! صاحبي والله! هو صاحبي بعينه. وذي أغنامه يردّها عن ارتياد الرّوضة. انطلقتْ أغنامي تسرح في الرّوضة ترتعي، ومضيت بنفسي إليه. جئتُه وأنا مأخوذ بدهشتي. حيّيته، وبادرته عاجلاً أسأله:
ـ لماذا تذوذ الغنم ولا ترعاها في الرّوضة ؟!
ابتسم ابتسامة وضيئة، وقال لي بمحبّة وصفاء:
ـ إنّي كنت واعدتك، فكرهتُ أن أرعى قبلك. انتظرتك حتّى تجيء.
وَهْ! ماذا قال ؟! ما هذا الذي أسمعه ؟! لم أكن أتصوّر هذا حتّى في الخيال! لو كنتُ جئت قبله لأطلقتُ لخرافي في الرّوضة العنان، ولَما خَطَر لي أن أفكّر لحظة في التريّث والانتظار. رهافة والله ما بعدها رهافة، ووفاء في عالم الصّداقة ما فوقه وفاء! كأنّ سَطْعة نور قد ضربتْ قلبي فجأة، فجعلته يبصر معنىً من الصّدق والوفاء لا عهد لي به من قبل.. قدّمه لي «محمّد» في لحظة.. وبسخاء عفويّ عجيب. وأحسست أنّ محمّداً كان يضيئ في قلبي، ويعلو ويعلو.. حتّى تبلغ هامته أعلى ذروة في أفق السماء.

من المجموعة القصصية (الولادة)، تأليف: إبراهيم رفاعة
بيروت ـ مجمع البحوث الإسلاميّة للدراسات والنشر1415هـ/1995م

الصفحة الرئيسية

صفحة السراج المنير

admin@albehari.net