القضية الفلسطينية وموقعها في الصراع مع العدو الصهيوني

بقلم: الأستاذ محمد حسين ( رئيس تحرير مجلة البلاد)

 بدأ الصراع العربي الصهيوني مع بدء الغزو الصهيوني الفلسطيني، الذي انطلقت بوادره مع مطلع القرن الماضي، تنفيذاً للمشروع الصهيوني الكبير الذي طرح تحت عنوان إيجاد وطن لليهود.

ولم يكن صدفة أن يتمركز هذا المشروع على أرض فلسطين ولا هو مجرد خيار اعتباطي لمع في ذهن أحد أحبار اليهود أو أحد زعمائهم. بل كان نتيجة لالتقاء مصلحة الغرب الاستعماري مع الحلم اليهودي. ففلسطين كممثل المكان المثالي المطلوب لتحقيق المشروع المشترك. فهي من جهة تقع في وسط المنطقة العربية ومنها يمكن مراقب ومتابعة المنطقة والتأثير على مجريات الأمور فيها بطريقة مباشرة. وهي حلقة اتصال مهمة بين الكيانات العربية التي اصطنعها الاستعمار نفسه ووجود الاستعمار فيها بنفسه أو عبر وكلائه اليهود يؤمن له الحفاظ على استمرار حال التجزئة في المنطقة ومنع وحدة الأجزاء أو تلاقيها. كما أن وجوداً قوياً فيها ومدعوماً من الغرب يجعله سيد الساحة والمتحكم بموازين القوى فيها. ومن ناحية أخرى فهي تلبي حاجة المشروع الصهيوني لوجود حوافز تاريخية ودينية تجذب اليهود من أنحاء العالم ليتجمعوا فيها ويشكلوا مادة المشروع وجنوده.

ومنذ البداية أعلن الصهاينة أن مشروعهم يتجاوز فلسطين الى محيطها ورفعوا شعار حدودك يا اسرائيل من النيل الى الفرات وهو ما يزال مرفوعاً حتى اليوم.

لم يستشعر العرب والمسلمون بالخطر الصهيوني إلاّ بعد أن تمكن من فرض نفسه وبناء قوته. مع أن حالات المقاومة له لم تنقطع يوماً. كلها كانت متوقفة على مجموعات شعبية حيناً أو نخبوية أحياناً أخرى دون أن تصل الى مستوى التعبئة العامة المطلوبة. وقد ساعده على تثبيت نفسه في ذلك الوقت وجود أنظمة عربية تابعة للغرب وممتثلة لأوامره.

وقد حاول المجاهدون الأوائل أن يوقظوا الأمة من سباتها وينبهوها الى الخطر المحدّق بها. وقدموا أنفسهم شهداء لذلك. ولكن استشهادهم أثر فقط في وجدان ونفوس الشعب ولم يؤد الى تغيير يذكر في الحالة الرسمية العربية. حتى جاء عام 48 وأعلن اليهود قيام دولتهم على أرض فلسطين فكان لهذا الإعلان الوقع المدّوي في المنطقة حيث اعتبره الجميع ناقوس الخطر المحدّق بهم. وتحت ضغط التحرك الشعبي وموجات التهجير والتشريد التي لحقت بالشعب الفلسطيني وأخبار المجازر المرتكبة بحقه حاولت الأنظمة أن تقوم بخطوة تغطي عجزها فكان جيش الإنقاذ الذي بقي خطوة ناقصة لم تسمن ولم تغن من جوع. ووصل صدى النكبة الى أقصى أطراف البلاد العربية والاسلامية وظل يتردد طويلاً في أرجائها، فهزها هزاً وأحدث تغييرات كبيرة فيها. حيث حصلت انقلابات ونشأت حركات سياسية وأحزاب تتبنى القضية الفلسطينية وتعتبرها من مهامها الأولى ووصلت بذلك الى سدة الحكم في أكثر من قطر عربي، خصوصاً تلك المجاورة لفلسطين. ومنذ ذلك الوقت تحول شعار تحرير فلسطين الى لازمة في العمل السياسي العربي، استخدمت كثيراً لقضاء مصالح داخلية وتحقيق استحقاقات محلية ولم تستخدم إلاّ نادراً من أجل فلسطين حقاً.

لقد أيقظت نكبة 1948 العرب والمسلمين من سباتهم، وجعلتهم يهتمون بمشكلة الخطر الصهيوني المتفاقم والمتنامي على أرض فلسطين، ودائماً كان حماس الجماهير أكبر بكثير من حماس الأنظمة. ولم يمهل العدو الصهيوني العرب لإلتقاط أنفساهم وتنظيم صفوفهم فشّن مع حلفائه فرنسا وبريطانيا عام 56 عدواناً عسكرياً على قناة السويس بعيد نجاح عبد الناصر وجماعة الضباط الأحرار بالاستيلاء على السلطة في مصر رافعين شعارات التحرير والوحدة. ودخلت المنطقة في مواجهة مستمرة وتحولت القضية الفلسطينية الى هم يعيشه ويلتمسه كل عربي. وكان لفشل العدوان الثلاثي على مصر أثر في عملية نهوض شعبية في المنطقة تنادي بتحرير فلسطين وطرد اليهود منها. وقد تعززت هذه النهضة بانطلاقة المقاومة الفلسطينية الوطنية عام 65 وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وبدء العمليات العسكرية ضد اليهود المحتلين. وقد لاقت انطلاقتها تجاوباً وترحيباً شعبياً عارماً لأنها مثلت حينها التعبير العملي عن رفض العرب للإحتلال الصهيوني واستعدادهم للتضحية في سبيل تحرير فلسطين من رجسه.

وبدأ الوعي العربي والاسلامي يتقدم في نظرته الى عملية الصراع مع العدو الصهيوني المحتل. وتجلى ذلك في العمل الاعلامي المترافق مع الكفاح المسلح والعمل الديبلوماسي مع دول العالم التي لا ترتبط بمصالح مباشرة مع العدو والتي يمكن أن تتفهم موقف العرب وحقوقهم المسلوبة من قبل اليهود المحتلين. واشتد الصراع عقب العدوان الصهيوني على الدول العربية المجاورة عام 1967 والذي انتهى باحتلال أراضٍ عربية مصرية وسورية ولبنانية وأردنية واستكمال احتلال كامل أرض فلسطين بما فيها مدينة القدس، وسط سكوت دولي مريب ودعم أميركي واضح وجلي للعدوان. ومع سقوط القدس جعل العرب والمسلمين يشعرون بالفاجعة نظراً للمكانة المقدسة التي تحتلها هذه المدينة في نفوسهم ووجدانهم. باعتبارها مثوى الأنبياء ومهبط الوحي ومسرى رسول الله محمد (ص). ومهد عيسى بن مريم (ع).. وهي أولى القبلتين عند المسلمين وثالث الحرمين. وهي المدينة الموعودة التي يظهر فيها في آخر الزمان النبي عيسى ليدعو الناس جميعاً الى الاسلام خلف راية الامام المهدي (عج).

وسقوط القدس أيضاً قرّب المشروع الصهيوني من التنفيذ باعتبارها العاصمة الأبدية المنشودة لدولتهم المزعومة. ولعبت أعمال التخريب الصهيونية والاعتداء على المقدسات وخصوصاً المسجد الأقصى دوراً في إثارة عواطف العرب والمسلمين وحماستهم لحماية المقدسات والعمل على إنقاذها وتحريرها.

ومنذ ذلك الوقت تصدرت القدس عنوان القضية وتداخلت العناوين لتصبح فلسطين هي القدس والقدس هي فلسطين.

لم يتوقف المشروع الصهيوني عند هذا الحد بل وسع دائرة عدوانه لتشمل لبنان أكثر من مرة في عام 72 و78 والاجتياح الكبير عام 82 الذي وصل الى أول عاصمة عربية بعد القدس.

في كل هذه المراحل كانت فلسطين هي عنوان الصراع. وكانت القضية الفلسطينية هي المحور الأساس لأي نضال عربي ولأية عملية استنهاض شعبية ولأي تحرك سياسي وديبلوماسي. وكان الالتفات الشعبي العربي حول الثورة الفلسطينية وبقاء القضية الفلسطينية عنواناً متمرناً في كل الساحات العربية يزعج العدو كما يزعج راعيته أميركا وأصدقاءه الغربيين. ولذلك فقد حاولوا بعد حرب تشرين عام 1973 والتي حققت فيها العرب بعض المكاسب أن يفككوا هذه الروابط المتينة وأن يلجأوا الى تجزئة القضية كما فعلوا في المنطقة سابقاً. وعلى هذا الأساس جرت اتفاقية ما سمي بالسلام بين العدو وكل من مصر والأردن على حدة. ثم مع عرفات كمثل للشعب الفلسطيني على حدة أيضاً.

وكان من المنتظر أن تأتي نتائج هذه الاتفاقيات بحصر القضية الفلسطينية في ساحة ضيقة هي حدود غزة وأريحا تم تصفيتها تدريجياً عبر اتفاقيات وتنازلات.

ويمكن القول أن هذه المحاولات كادت أن تنجح بفضل تخاذل بعض الدول العربية لولا الانتفاضات المتكررة للشعب الفلسطيني المجاهد التي كانت تنطلق لتعيد شحن النفوس العربية ولتجديد عنوان القضية المحورية ولإيقاظ المشاعر نحوها. ولولا المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان والبقاع الغربي التي كانت بجهادها ودماء شهدائها وانتصاراتها المتتالية تعيد للقضية تألقها وتوهجها وتدب الحماسة في نفوس العرب والمسلمين وتحفزهم للتعبئة والنهوض من أجل تحرير الأراضي المحتلة وطرد اليهود المحتلين.

وجاء انتصار المقاومة في لبنان وتحرير أرضه المحتلة ليوجه ضربة قاضية الى سياسة إنهاء القضية وخنقها. وليضخ دفعاً معنوياً هائلاً في نفوس الشعب الفلسطيني الموجود داخل فلسطين لينطلق في انتفاضته المباركة المستمرة والتي تحمل اسم الأقصى، وليلتف حولها كل العرب والمسلمين والشرفاء في العالم وتعدو قضية فلسطين حاضرةً في الميدان كما كان كامنة في الوجدان.

لقد شكّلت القضية الفلسطينية محور الصراع مع اليهود الغاصبين ومشروعهم الاستيطاني الاستعماري. وما زالت والمعركة معهم بدأت في فلسطين وتنتهي هناك. وكل العرب والمسلمين يدركون أن الخطر المحدق بهم لن يزول إلاّ إذا تحررت كل أرض فلسطين من رجس الاحتلال الصهيوني.

الصفحة الرئيسية

صفحة الانتصار

admin@albehari.net