الآيات القرآنية التي
يستفاد منها خلقه (صلى الله عليه و آله و سلم) الكريم و أدبه
الجميل أكثرها واردة في صورة الأمر و النهي، و لذلك رأينا أن
نورد في هذا المقام روايات من سننه (صلى الله عليه و آله و
سلم) فيها مجامع أخلاقه التي تلوح إلى أدبه الإلهي الجميل، و
هي مع ذلك متأيدة بالآيات الشريفة القرآنية .
1 ـ في معاني الأخبار،
بطريق عن أبي هالة التميمي عن الحسن بن علي (عليهما السلام) و
بطريق آخر عن الرضا عن آبائه عن علي بن الحسين عن الحسن بن علي
(عليهما السلام)، و بطريق آخر عن رجل من ولد أبي هالة عن الحسن
بن علي (عليهما السلام):
قال: سألت خالي هند بن
أبي هالة، و كان وصافا للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، و
أنا أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال: كان رسول
الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فخما مفخما يتلألأ وجهه
تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع و أقصر من المشذب،
عظيم الهامة، رجل الشعر، إن تفرقت عقيقته فرق و إلا فلا يجاوز
شعره شحمة أذنيه إذا هو وفرة، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج
الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب له نور يعلوه
يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم،
مفلج، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المشربة، كان عنقه جيد دمية في
صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، سواء البطن و الصدر،
بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، عريض الصدر، أنور
المتجرد، موصول ما بين اللبة و السرة بشعر يجري كالخط، عاري
الثديين و البطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين و المنكبين و أعلى
الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين و القدمين، سائل
الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين، فسيح القدمين ينبو عنهما
الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفؤا، و يمشي هونا، ذريع
المشية، إذا مشى كأنما ينحط في صبب، و إذا التفت التفت جميعا،
خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره
الملاحظة يبدر من لقيه بالسلام.
قال: فقلت له: صف لي
منطقه، فقال: كان (صلى الله عليه و آله و سلم) متواصل الأحزان،
دائم الفكر ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة،
يفتتح الكلام و يختتمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصلا لا
فضول فيه و لا تقصير، دمثا ليس بالجافي و لا بالمهين، يعظم
عنده النعمة و إن دقت، لا يذم منها شيئا غير أنه كان لا يذم
ذواقا و لا يمدحه، و لا تغضيه الدنيا و ما كان لها، فإذا تعوطي
الحق لم يعرفه أحد، و لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، إذا
أشار أشار بكفه كلها، و إذا تعجب قلبها، و إذا تحدث اتصل بها
فضرب راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، و إذا غضب أعرض و انشاح،
و إذا غضب غض طرفه جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام.
قال الصدوق: إلى هنا
رواية القاسم بن المنيع عن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر
بن محمد، و الباقي رواية عبد الرحمن إلى آخره.
قال الحسن (عليه
السلام): فكتمتها الحسين (عليه السلام) زمانا ثم حدثته به
فوجدته قد سبقني إليه فسألته عنه فوجدته قد سأل أباه (عليه
السلام) عن مدخل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و مخرجه و
مجلسه و شكله فلم يدع منه شيئا.
قال الحسين (عليه
السلام) قد سألت أبي (عليه السلام) عن مدخل رسول الله (صلى
الله عليه و آله و سلم) فقال: كان دخوله في نفسه مأذونا له في
ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، و
جزء لأهله، و جزء لنفسه ، ثم جزأ جزءه بينه و بين الناس فيرد
ذلك بالخاصة على العامة، و لا يدخر عنهم منه شيئا.
و كان من سيرته (صلى
الله عليه و آله و سلم) في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بأدبه، و
قسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، و منهم ذو
الحاجتين، و منهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم، و يشغلهم فيما
أصلحهم و الأمة من مسألته عنهم، و بإخبارهم بالذي ينبغي، و
يقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، و أبلغوني حاجة من لا يقدر
على إبلاغ حاجته فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يقدر على
إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، و
لا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا، و لا يفترقون إلا عن ذواق
و يخرجون أدلة .
و سألته عن مخرج رسول
الله (صلى الله عليه و آله و سلم) كيف كان يصنع فيه ؟ فقال:
كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يخزن لسانه إلا عما
كان يعنيه، و يؤلفهم و لا ينفرهم، و يكرم كريم كل قوم و يوليه
عليهم، و يحذر الناس و يحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره
و لا خلقه، و يتفقد أصحابه، و يسأل الناس عن الناس، و يحسن
الحسن و يقويه، و يقبح القبيح و يوهنه، معتدل الأمر غير مختلف،
لا يغفل مخافة أن يغفلوا و يميلوا، و لا يقصر عن الحق و لا
يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة
للمسلمين، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة و موازرة.
قال (عليهالسلام)
فسألته عن مجلسه (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال: كان لا
يجلس و لا يقوم إلا على ذكر، لا يوطن الأماكن و ينهى عن
إيطانها و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس و يأمر
بذلك، و يعطي كل جلسائه نصيبه، و لا يحسب أحد من جلسائه أن
أحدا أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من
سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس
منه خلقه فصار لهم أبا، و كانوا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس
حلم و حياء و صدق و أمانة، و لا ترفع فيه الأصوات، و لا يؤبن
فيه الحرم، و لا تثنى فلتاته، متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى،
متواضعين، يوقرون الكبير ، و يرحمون الصغير، و يؤثرون ذا
الحاجة، و يحفظون الغريب.
فقلت: كيف كانت سيرته
(صلى الله عليه و آله و سلم) في جلسائه ؟ فقال (عليه السلام) :
كان (صلى الله عليه و آله و سلم) دائم البشر، سهل الخلق، لين
الجانب، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا عياب، و
لا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه و لا يخيب منه
مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء و الإكثار و ما لا يعنيه،
و ترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا و لا يعيره، و لا يطلب
عثراته و لا عورته، و لا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه، إذا تكلم
أطرق جلساؤه كأن على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، و لا
يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم
عنده حديث أوليتهم، يضحك مما يضحكون منه ، و يتعجب مما يتعجبون
منه، و يصبر للغريب على الجفوة في مسألته و منطقه حتى إن كان
أصحابه يستجلبونهم، و يقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها
فارفدوه، و لا يقبل الثناء إلا من مكافىء، و لا يقطع على أحد
كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام .
قال: فسألته عن سكوت
رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فقال (عليه السلام) كان
سكوته (صلى الله عليه و آله و سلم) على أربع: على الحلم و
الحذر و التقدير و التفكير : فأما التقدير ففي تسوية النظر و
الاستماع بين الناس، و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى، و جمع له
الحلم و الصبر فكان لا يغضبه شيء و لا يستفزه، و جمع له الحذر
في أربع: أخذه بالحسن ليقتدي به، و تركه القبيح لينتهي عنه، و
اجتهاده الرأي في صلاح أمته، و القيام فيما جمع له خير الدنيا
و الآخرة.
أقول: و رواه في مكارم
الأخلاق نقلا من كتاب محمد بن إسحاق بن إبراهيم الطالقاني
بروايته عن ثقاته عن الحسن و الحسين (عليهما السلام) قال في
البحار : و الرواية من الأخبار المشهورة روته العامة في أكثر
كتبهم، انتهى.
و قد روي في معناها أو
معنى بعض أجزائها روايات كثيرة عن الصحابة.
قوله: «المربوع» الذي
بين الطويل و القصير، و المشذب الطويل الذي لا كثير لحم على
بدنه، و رجل الشعر من باب علم فهو رجل بالفتح و السكون أي كان
بين السبط و الجعد، و العقيقة الخصلة السبطة من الشعر، و أزهر
اللون أي لونه مشرق صاف، و الأزج من الحاجب ما رق و طال، و
السوابغ من الحاجب هي الواسعة، و القرن بفتحتين اقتران ما
بينها، و الشمم ارتفاع قصبة الأنف مع حسن و استواء، و كث
اللحية المجتمع شعرها إذا كثف من غير طول، و سهل الخد مستوية
من غير لحم كثير، و ضليع الفم أي وسيعه و يعد في الرجال من
المحاسن، و المفلج من الفلجة بفتحتين إذا تباعد ما بين قدميه
أو يديه أو أسنانه، و الأشنب أبيض الأسنان .
و المشربة الشعر وسط
الصدر إلى البطن، و الدمية بالضم الغزال، و المنكب مجتمع رأس
الكتف و العضد، و الكراديس جمع كردوس و هو العظمان إذا التقيا
في مفصل، و أنور المتجرد كان المتجرد اسم فاعل من التجرد و هو
التعري من لباس و نحوه، و المراد أنه (صلى الله عليه و آله و
سلم) كان جميل الظاهر حسن الخلقة في بدنه إذا تجرد عن اللباس.
و اللبة بالضم فالتشديد
موضع القلادة من الصدر و السرة معروفة، و الزند موصل الذراع من
الكف، و رحب الراحة أي وسيعها، و الشثن بفتحتين الغلظ في
القدمين و الكفين، و سبط القصب أي سهل العظام مسترسلها من غير
نتو، أخمص القدم، الموضع الذي لا يصل الأرض منها، و الخمصان
ضامر البطن فخمصان الأخمصين أي كونهما ذا نتو و ارتفاع بالغ من
الأرض، و الفسحة هي الوسعة، و القلع بفتحتين القوة في المشي.
و التكفؤ في المشي
الميد و التمايل فيه، و ذريع المشية أي السريع فيها، و الصبب
ما انحدر من الطريق أو الأرض، و خافض الطرف تفسيره ما بعده من
قوله: « نظره إلى الأرض»«إلخ».
و الأشداق جمع شدق ـ
بالكسر فالسكون ـ و هو زاوية الفم من باطن الخدين، و افتتاح
الكلام و اختتامه بالأشداق كناية عن الفصاحة، يقال: تشدق أي
لوى شدقه للتفصح، و الدمث من الدماثة و تفسيره ما بعده و هو
قوله: «ليس بالجافي و لا بالمهين» و الذواق بالفتح ما يذاق من
طعام، و انشاح من النشوح أي أعرض، و يفتر عن مثل حب الغمام
افتر الرجل افترارا أي ضحك ضحكا حسنا، و حب الغمام البرد، و
المراد أنه (صلى الله عليه و آله و سلم) كان يضحك ضحكا حسنا
يبدو به أسنانه.
و قوله: «فيرد ذلك
بالخاصة على العامة»«إلخ»، المراد أنه (صلى الله عليه و آله و
سلم) و إن كان في جزئه الذي لنفسه خلا بنفسه عن الناس لكنه لا
ينقطع عنهم بالكلية بل يرتبط بواسطة خاصته بالناس فيجيبهم في
مسائلهم و يقضي حوائجهم، و لا يدخر عنهم من جزء نفسه شيئا، و
الرواد جمع رائد و هو الذي يتقدم القوم أو القافلة يطلب لهم
مرعى أو منزلا و نحو ذلك.
و قوله: «لا يوطن
الأماكن و ينهى عن إيطانها» المراد بها المجالس أي لا يعين
لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من التصدر و التقدم فقوله:
«و إذا انتهى»«إلخ»، كالمفسر له، و لا تؤبن فيه الحرم أي لا
تعاب عنده حرمات الناس، و الأبنة بالضم العيب، و الحرم بالضم
فالفتح جمع حرمة.
و قوله: «و لا تثنى
فلتاته» من التثنية بمعنى التكرار، و الفلتات جمع فلتة و هي
العثرة أي إذا وقعت فيه فلتة من أحد جلسائه بينها لهم فراقبوا
للتحذر من الوقوع فيها ثانيا، و البشر بالكسر فالسكون بشاشة
الوجه، و الصخاب الشديد الصياح.
و قوله: «حديثهم عنده
حديث أوليتهم» الأولية جمع ولي، و كأن المراد به التالي التابع
و المعنى أنهم كانوا يتكلمون واحدا بعد آخر بالتناوب من غير أن
يداخل أحدهم كلام الآخر أو يتوسطه أو يشاغبوا فيه، و قوله:
«حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم» أي يريدون جلبهم عنه و تخليصه
منهم.
و قوله: «و لا يقبل
الثناء إلا من مكافىء» أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم و
هو الشكر الممدوح من كافأه بمعنى جازاه، أو من المكافاة بمعنى
المساواة أي ممن يثني بما يستحقه من الثناء على ما أنعم به من
غير إطراء و إغراق، و قوله: «و لا يقطع على أحد كلامه حتى
يجوز» أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام، و
الاستفزاز الاستخفاف و الإزعاج.
2 ـ و في الإحياء،: كان
(صلى الله عليه و آله و سلم) أفصح الناس منطقا و أحلاهم إلى أن
قال و كان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول و لا تقصير كأنه يتبع
بعضه بعضا، بين كلامه توقف يحفظه سامعه و يعيه، كان جهير الصوت
أحسن الناس نغمة.
3 ـ و في التهذيب،
بإسناده عن إسحاق بن جعفر عن أخيه موسى عن آبائه عن علي (عليهم
السلام) قال: سمعت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول:
بعثت بمكارم الأخلاق و محاسنها.
4 ـ و في مكارم
الأخلاق، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله (صلى الله
عليه و آله و سلم) أشد حياء من العذراء في خدرها، و كان إذا
كره شيئا عرفناه في وجهه.
5 ـ و في الكافي،
بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام)
يذكر أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ملك فقال:
إن الله يخيرك أن تكون عبدا رسولا متواضعا أو ملكا رسولا.
قال: فنظر إلى جبرئيل و
أومأ بيده أن تواضع فقال: عبدا رسولا متواضعا، فقال الرسول: مع
أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئا، قال: و معه مفاتيح خزائن
الأرض.
6 ـ و في نهج البلاغة،
قال (عليه السلام): فتأس بنبيك الأطهر الأطيب إلى أن قال قضم
الدنيا، قضما و لم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، و أخمصهم
من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا عرضا فأبى أن يقبلها، و علم
أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، و صغر شيئا فصغره، و لو لم
يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله و تعظيمنا لما صغر الله لكفى
به شقاقا لله و محادة عن أمر الله، و لقد كان رسول الله يأكل
على الأرض و يجلس جلسة العبد، و يخصف بيده نعله، و يركب الحمار
العاري و يردف خلفه، و يكون الستر على باب بيته فيكون عليه
التصاوير فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيبيه عني فإني إذا
نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، و
أمات ذكرها عن نفسه، و أحب أن يغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ
منها رياشا، و لا يعتقدها قرارا، و لا يرجو فيها مقاما،
فأخرجها من النفس، و أشخصها عن القلب، و غيبها عن البصر، و
كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه و أن يذكر عنده.
7 ـ و في الإحتجاج، عن
موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسن بن علي عن أبيه علي
(عليه السلام) في خبر طويل: و كان (صلى الله عليه و آله و سلم)
يبكي حتى يبتل مصلاه خشية من الله عز و جل من غير جرم، الحديث.
8 ـ و في المناقب،: و
كان (صلى الله عليه و آله و سلم) يبكي حتى يغشى عليه فقيل له:
أ ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ فقال: أ فلا
أكون عبدا شكورا ؟ و كذلك كان غشيات علي بن أبي طالب وصيه في
مقاماته.
أقول: بناء سؤال السائل
على تقدير كون الغرض من العبادة هو الأمن من العذاب و قد ورد :
أنه عبادة العبيد، و بناء جوابه (صلى الله عليه و آله و سلم)
على كون الداعي هو الشكر لله سبحانه، و هو عبادة الكرام، و هو
قسم آخر من أقسام العبادة، و قد ورد في المأثور عن أئمة أهل
البيت (عليهم السلام): أن من العبادة ما تكون خوفا من العقاب و
هو عبادة العبيد، و منها ما تكون طمعا في الثواب و هو عبادة
التجار، و منها ما تكون شكرا لله سبحانه، و في بعض الروايات
حبا لله تعالى، و في بعضها لأنه أهل له.
و قد استقصينا البحث في
معنى الروايات في تفسير قوله تعالى: «و سيجزي الله الشاكرين» :
«آل عمران: 441» في الجزء الرابع من الكتاب، و بينا هناك أن
الشكر لله في عبادته هو الإخلاص له، و أن الشاكرين هم المخلصون
بفتح اللام من عباد الله المعنيون بمثل قوله تعالى: «سبحان
الله عما يصفون ، إلا عباد الله المخلصين»: «الصافات: 601».
9 ـ و في إرشاد الديلمي،:
أن إبراهيم (عليه السلام) كان يسمع منه في صلاته أزيز كأزيز
الوجل من خوف الله تعالى، و كان رسول الله (صلى الله عليه و
آله و سلم) كذلك.
10 ـ و في تفسير أبي
الفتوح، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزل قوله تعالى : «و
اذكروا الله ذكرا كثيرا» اشتغل رسول الله (صلى الله عليه و آله
و سلم) بذكر الله حتى قال الكفار : إنه جن.
11 ـ و في الكافي،
بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال :
كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يتوب إلى الله في
كل يوم سبعين مرة، قلت: أ كان يقول : أستغفر الله و أتوب إليه
؟ قال: لا و لكن كان يقول: أتوب إلى الله، قلت كان رسول الله
(صلى الله عليه و آله و سلم) يتوب و لا يعود، و نحن نتوب و
نعود، قال: الله المستعان .
12 ـ و في مكارم
الأخلاق، نقلا من كتاب النبوة عن علي (عليه السلام): أنه كان
إذا وصف رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: قال: كان
أجود الناس كفا، و أجرأ الناس صدرا، و أصدق الناس لهجة، و
أوفاهم ذمة، و ألينهم عريكة، و أكرمهم عشيرة، من رآه بديهة
هابه، و من خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله و لا بعده مثله، (صلى
الله عليه و آله و سلم) .
13 ـ و في الكافي،
بإسناده عن عمر بن علي عن أبيه (عليه السلام) قال: كانت من
أيمان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لا و أستغفر
الله.
14 ـ و في إحياء
العلوم،: كان (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا اشتد وجده أكثر
من مس لحيته الكريمة.
15 ـ و فيه،: و كان
(صلى الله عليه و آله و سلم) أسخى الناس لا يثبت عنده دينار و
لا درهم، و إن فضل شيء و لم يجد من يعطيه و فجأ الليل لم يأو
إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه
الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر و الشعير، و
يضع سائر ذلك في سبيل الله.
لا يسأل شيئا إلا أعطاه
ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء
العام إن لم يأته شيء، قال: و ينفذ الحق و إن عاد ذلك عليه
بالضرر أو على أصحابه، قال : و يمشي وحده بين أعدائه بلا حارس،
قال: لا يهوله شيء من أمور الدنيا.
قال: و يجالس الفقراء،
و يؤاكل المساكين، و يكرم أهل الفضل في أخلاقهم، و يتألف أهل
الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو
أفضل منهم، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه.
قال: و كان له عبيد و
إماء من غير أن يرتفع عليهم في مأكل و لا ملبس، لا يمضي له وقت
من غير عمل لله تعالى أو لما لابد منه من صلاح نفسه، يخرج إلى
بساتين أصحابه لا يحتقر مسكينا لفقره أو زمانته، و لا يهاب
ملكا لملكه، يدعو هذا و هذا إلى الله دعاء مستويا .
16 ـ و فيه، قال: و كان
(صلى الله عليه و آله و سلم) أبعد الناس غضبا و أسرعهم رضى، و
كان أرأف الناس بالناس، و خير الناس للناس، و أنفع الناس للناس
.
17 ـ و فيه، قال: و كان
(صلى الله عليه و آله و سلم) إذا سر و رضي فهو أحسن الناس رضى،
فإن وعظ وعظ بجد، و إن غضب و لا يغضب إلا لله لم يقم لغضبه
شيء، و كذلك كان في أموره كلها، و كان إذا نزل به الأمر فوض
الأمر إلى الله، و تبرأ من الحول و القوة، و استنزل الهدى .
أقول: و التوكل على
الله و تفويض الأمور إليه و التبري من الحول و القوة و استنزال
الهدى من الله يرجع بعضها إلى بعض و ينشأ الجميع من أصل واحد،
و هو أن للأمور استنادا إلى الإرادة الإلهية الغالبة غير
المغلوبة و القدرة القاهرة غير المتناهية، و قد أطبق على الندب
إلى ذلك الكتاب و السنة كقوله تعالى: «و على الله فليتوكل
المتوكلون»: «إبراهيم : 21» و قوله: «و أفوض أمري إلى الله»:
«المؤمن: 44» و قوله: «و من يتوكل على الله فهو حسبه»:
«الطلاق: 3» و قوله: «ألا له الخلق و الأمر»: «الأعراف: 45» و
قوله: «و أن إلى ربك المنتهى»: «النجم: 24» إلى غير ذلك من
الآيات، و الروايات في هذه المعاني فوق حد الإحصاء.
و التخلق بهذه الأخلاق
و التأدب بهذه الآداب على أنه يجري بالإنسان مجرى الحقائق و
يطبق عمله على ما ينبغي أن ينطبق عليه من الواقع و يقره على
دين الفطرة فإن حقيقة الأمر هو رجوع الأمور بحسب الحقيقة إلى
الله سبحانه كما قال: «ألا إلى الله تصير الأمور»: «الشورى :
35»، له فائدة قيمة هي أن اتكاء الإنسان و اعتماده على ربه ـ و
هو يعرفه بقدرة غير متناهية و إرادة قاهرة غير مغلوبة ـ يمد
إرادته و يشيد أركان عزيمته فلا ينثلم عن كل مانع يبدو له، و
لا تنفسح عن كل تعب أو عناء يستقبله، و لا يزيلها كل تسويل
نفساني و وسوسة شيطانية تظهر لسره في صورة الخطورات الوهمية.
الميزان في تفسير
القرآن ج 6 ص 302
تأليف: العلامة السيد
محمد حسين الطباطبايي
|