صوت الكورس (2)
هو الكونُ: يَنبوعُ حُزْنٍ مُباحْ
هو الأُفقُ: شَهْقاتُ صوتِ البِطاحْ
هو القلبُ: أنَّ، وحَنَّ.. وناحْ
صوت الكورس (3)
هو الحُزْنُ: طيرٌ طليقُ
الجَناحْ
هو الحزْنُ: مُهْرٌ شديدُ الجِماحْ
هو الحزْنُ: أزهرَ لونَ الجِراحْ
(1)
كان
صبحاً مُرتَبِكاً، ذلك الذي نهضَ فيه «بِلالٌ» ليؤذِّنَ
للصلاة!
تَعثَّر صوت بلال بالحزن.. وتوقّف!
افتقدَت الصلاةٌ سِرّها الذي تتعشّقه.
كان سرّها مغموراً ـ يومئذٍ ـ بمعاناةِ ساعة الرحيل:
رأسه المقدس على صدر أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
وإلى جواره كانت فاطمة المُوَلَّهة بأبيها: تَرمُق الوَجهَ
النبويَّ من خلال الدُّموع.
(2)
لم
يكن مع نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الغرفة سِواهم:
عليّ الوصيّ، وفاطمةُ الحَوراء الإنسيّة، وصغيراهما: الحسن
والحسين.
وفي أنوار جوّ علويّ فريد... تَمّ كلّ شيء:
نزع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتمه... وألبسه
عليّا.
لقد أعطاه عُدّةَ النبيّ العظيم. وتلقّى العدّةَ ـ بكلِّ
رجولةٍ ـ قلبُ عليّ
كانت العُدّةُ أشياءَ قليلة، ولكنها كانت كلَّ شيء!
كانت العدّةُ السيفَ، والدرعَ، والرايةَ، والجوادَ... والخاتم.
وكان معنى العُدّة: أمانة الاستمرار في حمل رسالة النبيّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم في وَعْر الطريق بعد فاجِع الرحيل.
لقد كان النبيّ الكريم يُعِدّ تلميذه العظيم، وكان يدّخره لهذه
المهمّة الكبيرة.
وها هي ذي قد أزِفَت ساعةُ التنفيذ.
(3)
الجبينُ النبويّ الشريف.. تتلألأ فوقه حبّاتٌ من العَرَق
المقدّس ـ إنها ساعة الاحتضار.
وكان جلالٌ مَهيب يهيمن على صَمْتِ المكان.
ولكنّ صوتَ طهرٍ ملائكيّ كان يتجاوب في الغرفة، هو صوت
الصِّدِّيقةِ الزهراء عليها السّلام.
كانت فاطمة تبكي أباها صلّى الله عليه وآله وسلّم.
كانت تبكي النورَ الالهيّ الذي اندغم في قلبها، واندغم قلبها
فيه.. وامتزجا، حتّى صارا واحداً لا يقبل الانفصال.
كانت فاطمة النحيلة.. تبكي، وتبكي، وتبكي.
(4)
ويفتح نبيُّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عينَيه الوسيعتَين،
ليرى الوجهَ الفاطميَّ المغسول بطاهر الدموع. فيومئ إليها
أبوها إيماءةً حبيبة جاذبة.
ثمّ كانت الشِّفاه النبويّة الأبويّة تَهمِس في أُذُن الزهراء
عليها السّلام سِرّاً من الأسرار.
وفجأةً..
غَسَلت الهمسةُ النبويّة العجيبة أحزانَ فاطمةَ البتول، حتّى
تَهلّل مُحيّاها بنورٍ غريب.
لقد أخبرها أبوها أنها أوّل أهلِ بيته لُحوقاً به، بعد رحيله
عن هذه الأرض ـ وكان ذلك للبَضعةِ المحمّدية: العزاءَ الكبير.
بعد ذلك..
حَدَث على الأرض أجَلُّ ما حدث في تاريخ الأرض:
لقد طفح شوقُ النبيّ المُسَجّى العظيم... إلى الرفيق الأعلى.
ثمّ كان أمرُ الله، في الساعة المكنونة في غيب الغيوب.
...
وانفجرت المدينة كلّها.. بالبكاء والنحيب.
(5)
ما
أعجبَ المشاعرَ التي كانت تَموج في قلبكَ.. أيّها الوصيّ؟!
يومَ كنتَ أقربَ الناس إلى نبيّ الله صلّى الله عليه وآله
وسلّم، وهو في أيامه الأخيرة: على الفراش، وفي لحظة الاحتضار!
وما أعجبَ المشاعرَ التي كانت تَموج في قلبك.. يا عليّ! ساعة
تَوَلَّيْتَ أمر أخيك وحبيبك رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلّم، وساعة قُمتَ بغُسْله وتكفينه وتجهيزه ـ وكانت تلك لك
تعليمات النبيّ الراحل العظيم.
ولقد قُبضَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنّ
رأسَه لَعلى صدري.
وقد سالَتْ نفسُه في كفّي، فأمْرَرتُها على وجهي.
ولقد وُلِّيتُ غُسْلَه صلّى الله عليه وآله وسلّم
والملائكةُ أعواني، فضَجّتِ الدار والأفنية: مَلأٌ
يَهْبِط، وملأٌ يَعْرُج. وما فارَقَتْ سمعي هَيْنَمةٌ
منهم ـ يُصَلّون عليه، حتّى وارَيناه في ضريحه.. فمن ذا
أحقّ به منّي حيّاً وميّتاً؟!(2) |
كيف
لأحزانك أن تنقضي..؟!
وأيّ شيءٍ قادر على العزاء والتصبير؟!
أمّا حُزْني فَسَرْمَد. وأمّا ليَلي فَمُسَهَّد.. إلى
أنْ يختارَ الله لي دارَك التي أنتَ بها مُقيم.(3) |
(6)
صوت الكورس(1)
اللّهمّ.. صَلّ على محمدٍ
(وآله)، كما حَمَل وحيك، ووفى بعهدك، وبلّغ رسالاتك.
صوت الكورس(2)
اللّهمّ.. صَلّ على محمدٍ وآله،
كما قاتلَ أهلَ الجُحود على توحيدك
وقَطعَ رَحِمَ الكفر في إعزاز دينك
ولبس ثوب البلوى في مجاهدة أعدائك.
صوت الكورس(3)
اللّهمّ.. صَلّ على محمدٍ وآله،
كما قَصَمتَ به الجبابرة
وأهلَكتَ به الفراعنة.
صوت الكورس(4)
اللّهمّ.. صَلّ على محمدٍ وآله،
كما رَحِمْتَ به العِباد
وأحيَيتَ به البلاد.
صوت الكورس(5)
اللّهمّ.. صَلّ على مَن شرّفت
الصلاةَ بالصلاةِ عليه.
اللّهمّ.. صَلّ عليه صلاةً تَكتحِلُ بها بصائرنا بالنور
المرشوش في الأزَل.
واجعل لي نوراً أمشي به في الناس
بدونِ آشتباهٍ، ولا آلتباس.
(7)
ثلاثة وستون عاماً..
صَنَعت فجرَ حياةٍ جديدة للانسان، وغَيّرت ـ من الجذور ـ ما
جرى على هذا الكوكب.
لقد ذاقت الأرض ـ بنكهةٍ فريدة هذه المرّة ـ عطرَ السماء،
وآستَنشَقتْ نسائمَ من عذوبة النبيّ الكبير.
هَبَطت الكلمة من غيبِ الغُيوب نحو أرض الانسان،
فكانت:
سَيلاً اكتسح رُكامات الضلال
وكانت:
نوراً غسَلَ البسيطة، وطَيّبَها بعطر الله الأزليّ.
(8)
لَطالما تَعذّب الانسان بعذابات الجاهليات القديمة..
ولَطالما كان صُراخُ المقهورين يَخرِق سكونَ الليل..
ولَطالما كانت الحجارة الكبيرة السوداء تَجثِم على صدور
المظلومين.
ثمّ..
كان الكفاحُ الأنبلُ،
وكان الجهادُ الأكملُ..
طيلةَ ربع قرنٍ من الزمان الصعب،
وطيلة ربع قرنٍ من مَشقّات التغيير.
(9)
كان
الكفاح النبويّ ـ أوّلَ الأمر ـ يُخْرِج من داخل النفوس:
الثعابينَ السَّوداء.
ثمّ كان الجهاد النبويّ يُخرج من هذه الأرض: ثعابينَها
الرَّقْطاء.
...
لقد بدأت الدائرة تنمو من مكة..
لتتّسع بعدئذٍ، فتشمَلَ أطرافَ الجزيرة.
ثمّ..
لتنطلق منها إلى عالم الانسانِ، في كلّ مكان.
(10)
ما
اكتملت السنوات الثلاث والستّون.. حتّى كانت ركائز التوحيد قد
دُقّتْ على سطح الكوكب الأرضيّ، وحتّى كانت البذور المقدّسة قد
بدأت تتغلغل بِلَباقة بين حبّات رمل الجزيرة، لتبدأ بعد رحيل
الزارع العظيم مهمّةُ التعميق والانتشار، حتّى تتحوّل الجزيرة
القاحلة إلى حدائقَ من أنوار النبيّ صلّى الله عليه وآله
وسلّم.
ولقد كانت تلك، بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، مهمّةً
جليلة لا يَقدر عليها غير أصحاب الأصابع الحاذقة، والبصائر
الثاقبة، وغير أصحاب الحَدَقات الوسيعة المكحولة بالنور
النبويّ الخصيب.
(11)
هي
ذي أرض الانسان، بعد ذلك الزمان الطويل.
هي ذي أرض الانسان، بعد قرون من تجربةِ النبيّ العظيم:
لقد أدارَ الانسانُ ـ على سطح الأرض ـ ظهرَه عامداً لحدائق
النبيّ، وترك مصباح النور وراء ظهره، ومشى في ظلّ نفسه.. نحو
صحراء الظلام.
هي ذي الأرض بعد قرون أربعة عشر من أزمنة الاغتراب.
هي ذي أرض الانسان:
صحراءُ ـ ولا حدائق
رمالٌ ـ ولا أزهار
سرابٌ ـ ولا واحات
لَفَحاتٌ ـ ولا ظِلال
جفافٌ ـ ولا أمطار
ليلٌ ـ ولا شموس
(12)
ها
هي تباشير العودة إلى الإسلام،
... فمتى تبدأ ـ يا أخي الانسان ـ رحلة العودة إلى عذوبة
الينابيع؟
متى تبدأ ـ يا أخي ـ أسفارَك النبيلة نحو الحدائق المتوقّدة
بالنور؟
متى تبدأ حنينَك إلى وطنٍ خصيب، كلّه شاطئ وسحاب؟
متى تبدأ خطواتك المُسْعِدة نحو قناديل النبيّ، مجذوباً بالعشق
السماويّ الشفيف؟
متى تبدأ ـ يا أخي الانسان؟
...
هَلُمّ ـ يا أخي ـ بخُطُواتك الرشيقة..
هَلُمّ بأشواقك الوالهة
هَلُمّ بالإيمان.
(13)
إنك
ـ يا أخي الانسان ـ ابن النور.
وها أنتَ ذا تَهِمُّ أن ترتمي على صدر أبيك من جديد، لتعودَ
إلى مصدرك في التكوين كما تعود القطرة إلى المحيط.
(14)
أُبارك لك، أيّها الانسان
وأشُدُّ على يَدَيْك.
فأنت ونور الله على موعد.
وها نحن أولاء نكتحل معاً بنور حدائق النبيّ العظيم:
صوت المُنْشِد: