الدفاع عن كيان الدولة الفتية

1 ـ غزوة بدر الكبرى :

بنزول الأمر الإلهي بالقتال انتقلت الرسالة الإسلامية إلى مرحلة جديدة من الصراع مع قوى الشرك والضلالة، وتحركت في نفوس المهاجرين الرغبة الجادة لاسترداد حقوقهم المسلوبة من قبل والتي استلبتها قريش منهم لا لشيء إلاّ لأنهم آمنوا بالله وحده.

ورصد النبيّ (صلى الله عليه وآله) قافلة قريش التي فاتته في طريق ذهابها إلى الشام في غزوة ذات العشيرة وخرج في عدّة خفيفة وعدد قليل يرتجي ملاقاة قافلة ضمّت أسهماً تجارية ضخمة لأغلب المكيين. ولم تكن حركة النبي (صلى الله عليه وآله) سرّية فقد بلغ خبرها إلى مكة وإلى أبي سفيان قائد القافلة فتحوّل في مسيره إلى اتجاه آخر حيث لايدركه المسلمون... وخرجت قريش فزعة تطلب مالها تلهبها مشاعر الحقد والحسد للمسلمين، على أن عدداً من كبارها نظر إلى الأمر بتدبّر ورويّة وآثر عدم الخروج لملاقاة المسلمين وخصوصاً بعد أن ورد خبر نجاة أبي سفيان بالقافلة التجاريّة.

خرجت قريش بعدد يناهز الألف في عدّة ثقيلة يدفعها تجبّرها، والاغترار بمنزلتها بين العرب ومع جموع اُخرى هبّت لنصرتها مصرّةً على لقاء المسلمين أو لتثبت أنها لا تخذل كي لا يتعرض لها المسلمون ثانية، فقريش ماذلّت مذ عزّت، كما أعرب عن ذلك بعض أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) حين أراد مواجهة قريش لأوّل مرة[1].

نزلت قريش وصفّت صفوفها للقتال على مقربة من (ماء بدر) حيث سبقهم المسلمون في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهيّأ الله لرسوله (صلى الله عليه وآله) وللمسلمين مقدمات النصر وأسبابه فسهّل لهم الوصول إلى موقع القتال وألقى عليهم الأمن والاطمئنان ووعدهم بالنصر على أعدائهم وإظهار دين الحق[2].

وبالرغم من أن المسلمين لم يتوقعوا خروج قريش لملاقاتهم ولكن بعد أن فاتتهم القافلة وتحول الهدف إلى القتال أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يختبر نوايا المهاجرين والأنصار فوقف وقال: «أشيروا عليّ أيها الناس» .

فقام بعض المهاجرين وتكلّم بكلام يدل على الخوف والجبن عن مواجهة العدو ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله إمضِ لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون»، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغِماد[3] لسرنا معك.

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيراً. ثم كرر رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: أشيروا عليّ أيها الناس، يريد بذلك أن يسمع رأي الأنصار إذ كانوا قد بايعوه على الدفاع والذبّ عنه بالنفس والنفيس في العقبة قبل الهجرة.

فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يارسول الله تريدنا؟ قال (صلى الله عليه وآله): أجل. قال: إنّا قد آمنا بك وصدقّناك وشهدنا أن كل ما جئت به حق. وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يانبي الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك مابقي منا رجل، وما نكره أن يلقانا عدونا غداً; إنا لصُبّر عند الحرب، صِدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك.

عندها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم»[4].

وفي كل موقف كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعو ويسأل الله النصر بعد أن تهيّأ المسلمون للحرب وقاموا بالإعدادات اللازمة بدءاً باختيار الموقع المناسب وإعداد الماء واتّخاذ التحوّطات لملاقاة العدو، والنبي القائد (صلى الله عليه وآله) كان دائماً هو الطاقة المتدفقة التي تبعث فى نفوسهم الصبر والجلد، والاطمئنان كما كان يثير الحماس فيهم ويخبرهم بالمدد الإلهي[5].

واحتفّ المسلمون حول النبي وهم يظهرون أروع صور الاستعداد للتضحية من أجل العقيدة ويفكّرون في خطة بديلة لودارت الحرب على غير ما يحبون فأعدّوا عريشاً كمقرّ لقيادة النبي (صلى الله عليه وآله) لِيشرف من خلاله على المعركة. وخرجت سرية الاستطلاع لمعرفة أحوال قريش وعادوا بالأخبار الّلازمة للنبي (صلى الله عليه وآله) فقدّر عددهم ما بين (950 ـ 1000) مقاتل[6].

وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصفّ المسلمين صفوفاً وأعطى رايته الكبرى لعلي ابن أبي طالب (عليه السلام) وأرسل إلى قريش طالباً منها أن ترجع، فهو يكره قتالها، فدبّ الخلاف بين صفوف المشركين بين راغب في السلم ومصرّ على العدوان[7].

وأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أن لا يبدأ المسلمون القتال، ووقف يدعو الله قائلاً: «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم».

وكما هو المعتاد في كل الحروب القديمة برز من المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون نظراء لهم من قريش ليبارزوهم. فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب: «يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله»[8].

فقُتل من برز من قريش والتحم الجيشان ورسول الله(صلى الله عليه وآله) يبعث الحماس في نفوس المسلمين. ثم أخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كفاً من الحصى ورمى بها على قريش وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم أحد إلاّ اشتغل بفرك عينيه[9] فكانت هزيمة قريش ووقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قليب بدر بعد طرح جثث المشركين فيه، وناداهم بأسمائهم وقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً قد ماتوا؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إنهم ليسمعون كما تسمعون ولكن منعوا من الجواب[10].

 

نتائج المعركة :

خلّفت معركة بدر نتائج عظيمة فقد فرّ المشركون نحو مكة والخيبة والذل يحيطان بهم من كل جانب تاركين خلفهم سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً وغنائم كثيرة... وبدت بين صفوف المسلمين المنتصرين بوادر اختلاف حول كيفية تقسيم الغنائم فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بجمعها حتى يرى فيها رأيه، ونزل الأمر الإلهي في سورة الأنفال بتقسيم الغنائم وتشريع أحكام الخمس، فأعطى رسول الله لكل فرد مقاتل حصته على قدم المساواة مع غيره[11].

وبشأن الأسرى أعلن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ من علّم من الأسرى عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة فذلك فداؤه مظهراً بذلك سماحة العقيدة الإسلامية وحثّها على التعلم وبناء الإنسان المتحضّر. وأما الباقي من الأسرى فجعل فداء كل واحد منهم أربعة آلاف درهم، وشمل هذا القرار أبا العاص زوج زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من دون تمييز له عن غيره من المشركين.

وحين أرسلت زينب قلادتها لفداء زوجها بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرؤية القلادة متذكراً زوجته خديجة فالتفت (صلى الله عليه وآله) الى المسلمين قائلاً: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها مالها فافعلوا[12]. وما أيسر هذا الطلب لنبي الرحمة من المسلمين . وأسرع ابو العاص الى مكة ليرسل زينب الى المدينة كما وعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسرت بشائر النصر والفتح المبين نحو المدينة فأوجفت قلوب اليهود والمنافقين خيفة ورعباً وسَعَوا لتكذيب الخبر في حين انتشى المسلمون فرحاً وسروراً وخرجوا لاستقبال النبي القائد المنتصر.

وحلّت الكارثة بأهل مكة وخيّم الحزن على أجوائها وصعق المشركون من هول الصدمة وعمّت الأحزان بيوتات مكة وأطرافها.

وتضمّنت آيات الذكر الحكيم نصوصاً صريحة عن هذه المعركة المصيرية وهي تذكر تفاصيل الأحداث وتظهر الإمداد الإلهي للاُمة المسلمة المخلصة لربها في سبيل نشر رسالته[13].

وقد استبسل علي بن أبي طالب (عليه السلام) للدفاع في هذه الغزوة الكبرى حين قتل الوليد بن عتبة وأعان عمّه حمزة وعبيدة بن الحارث على قتل شيبة وعتبة منازلاً لهما. وقد عدّ الشيخ المفيد ستة وثلاثين نفراً ممن قتلهم علي (عليه السلام) يوم بدر سوى من اشترك في قتله[14]، وقال ابن اسحاق : اكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعليّ[15].

وألجأت هذه الهزيمة قريشاً الى تحويل مسير تجارتها من الشام الى العراق بعد أن أصبح للمسلمين كيان قوي، له آثاره على تركيبة مجتمع الجزيرة حيث بدت تظهر بالتدريج وبدأت قريش تفقد هيبتها بين القبائل في الوقت الذي أخذت تشتد أواصر المسلمين فيما بينهم وبين الرسول القائد(صلى الله عليه وآله).

 

2 ـ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بزواج الزهراء (عليها السلام) :

حلّت الزهراء من قلب النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) المنزلة الرفيعة إذ كان يجد فيها السلوة والعزاء ، والصورة الطيبة التي تركتها خديجة (عليها السلام)، والذرية الطاهرة. وشاركت الزهراء (عليها السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) هموم الرسالة وعملت كثيراً للتخفيف عنه حتى قال عنها: «إنها أم أبيها».

وحين بلغت الزهراء (عليها السلام) في بيت النبوة مبلغ النساء وقد نهلت من معين النبوة وسلسبيل الرسالة خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يردّهم بحكمة ردّاً جميلاً بقوله: إني انتظر فيها القضاء أو يقول: أنتظر أمر السماء[16].

وفرح النبيّ (صلى الله عليه وآله) بتقدم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لخطبة فاطمة الزهراء(عليها السلام) وقال له: اُبشرك يا عليَّ فإن الله عزّوجلّ قد زوجكها في السماء من قبل أن أزوجكها في الأرض، وقد هبط عليَّ من قبل أن تأتيني ملك من السماء فقال: يا محمد إن الله ـ عزّوجلّ ـ اطّلع إلى الأرض إطلاعة فاختارك من خلقه فبعثك برسالته، ثم اطّلع الى الأرض ثانية فاختار لك منها أخاً ووزيراً وصاحباً وختناً فزوّجه ابنتك فاطمة (عليها السلام)، وقد احتفلت بذلك ملائكة السماء. يا محمد إن الله ـ عزّ وجلّ ـ أمرني أن آمرك أن تزوّج علياً في الأرض فاطمة، وتبشرهما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين خيّرين فاضلين في الدنيا والآخرة[17].

وأمام جمع من المهاجرين والأنصار أجرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عقد الزواج لقاء مهر يسير ليجعله سنّة تقتدي به الاُمة. وحين وضع أثاث بيت الزهراء (عليها السلام) بين يدي الرسول (صلى الله عليه وآله) وكان أكثر أوعيته من الخزف دمعت عيناه وهو يقول: اللهم بارك لأهل بيت جلّ آنيتهم من الخزف[18] وأبدى النبي (صلى الله عليه وآله) اهتماماً بالغاً في زواج ابنته الزهراء(عليها السلام) في كل تفاصيله، وقد تجلت ناحية من نواحي اهتمامه (صلى الله عليه وآله) بذلك في دعائه للزوجين يوم الزفاف إذ قال: «اللهم اجمع شملهما وألّف بين قلبيهما واجعلهما وذريتهما من ورثة جنّة النعيم وارزقهما ذرية طاهرة طيّبة مباركة واجعل في ذريتهما البركة واجعلهم أئمة يهدون بأمرك الى طاعتك ويأمرون بما رضيت».

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: «يا ربّ إنك لم تبعث نبياً إلاّ وقد جعلت له عترة اللهم فاجعل عترتي الهادية من علي وفاطمة» ثم قال: «طهّركما الله وطهّر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما وحرب لمن حاربكما»[19].

 

3 ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع :

لمس اليهود خطر تنامي قوة الإسلام والمسلمين في المدينة. فالكيان الطري أصبح أشد عوداً وأقوى شكيمةً وتحولت الرسالة الإسلامية الى قوة تحكم.

وقبل بدر كانت معاهدة الصلح صمّام الأمان الذي يقبض على طرفي الصراع ويحول دون الانفجار، لكن النصر المؤزر للمسلمين فجّر روح العداء وألهب نزعة الشرّ اليهودية تعينها أطراف النفاق الاُخرى، وجعلوا يتغامزون ويتآمرون، ويرسلون الأشعار ويجهدون في التحريض على المسلمين الذين أصبح لهم سلطان جديد مضافاً إلى دينهم الجديد.

ولم تكن أخبارهم لتخفى على الرسول (صلى الله عليه وآله). وتحركت في نفوس المسلمين الجرأة في الدفاع والحرص على الإسلام والنبي (صلى الله عليه وآله)، فلم يتمالك الفدائي المسلم ـ هو سالم بن عمير ـ نفسه حين سمع رجلاً مشركاً ـ هو أبو عفك من بني عوف ـ يسيء للنبي فقتله[20] وتكرَّرت المحاولة مع مشركة حاقدة ـ هي عصماء بنت مروان ـ [21] وتمكن المسلمون أيضاً من اغتيال كعب بن الأشرف إذ تمادى في التعريض والاستهزاء والنيل من أعراض المسلمين[22].

ولم تتوقف مساعي اليهود التحريضية ونشر الأباطيل والدعايات الكاذبة والتشهير بالمسلمين ناقضين بذلك عهد الموادعة والتعايش السلمي وأراد نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله) أن يخلص وإياهم الى الاستقرار فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) الى يهود بني قينقاع يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة وينذرهم من مغبّة سياساتهم وتصرّفاتهم اللامحمودة فقال لهم بعد أن جمعهم في سوقهم: «يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني رسول الله تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم».

ولم يزدهم ذلك إلاّ علوّا واستكباراً فقالوا: يا محمد لا يغرّنك مَن لقيت، انّك قهرت اقواماً وإنّا والله اصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمنّ انّك لم تقاتل مثلنا[23].

وتجلّت خسّة اليهود حين أساؤوا إلى امرأة من المسلمين ونالوا من كرامتها وانتهى الأمر الى قتل يهودي ومسلم فعندها سار النبي (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين فحاصر يهود بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لايخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد، فلم يبق لهم إلاّ الاستسلام والنزول على حكم النبي (صلى الله عليه وآله) بجلائهم عن المدينة تاركين عدّتهم وأدواتهم، فخلت المدينة من أهم عناصر الشر وساد الهدوء السياسي فيها إذ تضاءل تواجد ودور غير المسلمين في المدينة، بعد أن لمسوا قوة المسلمين وتطوّر التنظيم الإداري وازدياد قوّة القيادة والدولة الإسلامية التي كانت تعمل وفق مخطط حكيم.

 

4 ـ ردود فعل قريش بعد انتصارات المسلمين :

جمع أبو سفيان عدداً من فرسان قريش وقادهم نحو المدينة تدفعهم نواياهم الغادرة إلى الفتك بالمسلمين وردّ اعتبار قريش المفقود في بدر. وعلى مقربة من المدينة عاثوا في الأرض فساداً وكرّوا فارّين خوفاً من أن تنالهم سيوف المسلمين.

وخفّ النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون في أثر المشركين يدفعهم ولاؤهم لدينهم تأكيداً منهم على الدفاع عن سيادة الدولة الفتية وحفظها من أيادي السوء...

وقد اتخذ المشركون كل ما يعينهم على الهرب فألقوا ما معهم من (سويق) وهو مؤونتهم، والتقطه المسلمون من خلفهم وسميت الغزوة بذلك غزوة السويق وكان هذا خزياً آخر لحق قريشاً. وتأكيداً للقبائل التي تطاير الخبر إليها أنّ وجود الإسلام كقوة منظمة قد أصبح واقعاً مفروضاً .

وكان همّ النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه المرحلة توفير الأمان في أوساط المجتمع المسلم في المدينة وصدّ أيّ عدوان محتمل. على أن بعض القبائل التي كانت تأبى الدخول في الاسلام وتبطن العداء له لم تكن لتهتدي الى تصرف مناسب مع الرسول والمسلمين، فكانوا يعدون العدّة للهجوم على المدينة ويفرّون حين يسمعون بخروج النبي (صلى الله عليه وآله) لهم.

وخرجت سرية اُخرى بقيادة زيد بن حارثة بعد أن وجهها النبيّ(صلى الله عليه وآله)
لقطع الطريق الجديد لتجارة قريش عن طريق العراق. وقد نجحت السرية في مهمتها.

 

5 ـ غزوة اُحد[24] :

مرّت الأيام التي تلت معركة بدر ثقيلة على قريش والمشركين. وفي المدينة لم يزل النبي (صلى الله عليه وآله) يواصل عمليّة بناء الانسان والدولة حيث كانت الآيات الإلهية تترى وهي تشرّع للإنسان سلوكه وحياته والنبي (صلى الله عليه وآله) يفصّل التعاليم ويطبق الأحكام ويهدي الى طاعة الله.

وتظافرت الأسباب والدواعي عند مشركي مكة ومن والاهم لخوض حرب جديدة ضد الإسلام تزيح عن كاهلهم كابوس الهزيمة في بدر وتطفىء غليل الحقد الذي مازال يؤجّجه أبو سفيان زعيم البيت الاُموي والخاسر الأكبر في بدر، كما كان عويل النساء ومطامع التجار الذين فقدوا كل الطرق الآمنة للتجارة عاملين آخرين لذلك.

فكانت الحرب محاولة لإضعاف المسلمين وتأمين طرق التجارة الى الشام، والحدّ من تنامي قوة المسلمين العسكرية لتجنيب مكة من خطر الاحتلال والقضاء على الشرك فيها. ومما أسهم في إعداد الحرب أيضاً تحريض يهود ومنافقي المدينة لقريش وغيرها لغزو المدينة والقضاء على الإسلام.

وسارع العباس بن عبد المطلب إلى الكتابة للنبي (صلى الله عليه وآله) يخبره عن اجتماع كلمة قريش على الحرب وتهيئتهم للعدّة والعدد حيث استنفروا معهم القبائل واتخذوا عدة أساليب لإثارة الحرب والعزيمة على القتال إذ خرجت النسوة معهم.

ووصل الكتاب سرّاً الى النبي (صلى الله عليه وآله) فكتم الخبر عن المسلمين حتى يستوضح الأمر ويعدّ له العدّة اللازمة.

واقتربت جحافل الشرك من المدينة فبعث النبي (صلى الله عليه وآله) الحباب بن المنذر سراً ليستطلع العدو ـ بعد أن بعث أنساً ومؤنساً ابني فضالة ـ فجاء الخبر والوصف متوافقين مع كتاب العباس وخبر ابني فضالة، وبات عدد من المسلمين من الذين أخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخبر في حيطة وحذر خشية مداهمة العدو.

ثم استشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه بعد أن أعلن قدوم قريش للحرب فاختلفت آراؤهم بين التحصّن في المدينة أو الخروج لملاقاة العدو خارجها. ولم يكن عسيراً على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحدد الخطة مسبقاً لكنه أراد أن يشعر المسلمين بمسؤوليتهم. ثم كان الاتفاق على خروج المسلمين للقاء العدو وقتاله خارج المدينة. ثم صلّى النبيّ (صلى الله عليه وآله) صلاة الجمعة وصعد المنبر وخطب وأخذ يعظ الناس ويذكّرهم بطاعة الله وأمرهم بالجد والجهاد والصبر. ثم نزل ودخل داره ولبس لامته مما أثار المسلمين وهزهم بشدة وظنوا أنهم أكرهوا الرسول (صلى الله عليه وآله) على الخروج من المدينة فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك. فقال (صلى الله عليه وآله): ماينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل[25].

وخرج النبي (صلى الله عليه وآله) في ألف مقاتل من المسلمين ورفض أن يستعين باليهود ضد المشركين قائلاً: لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك[26]. ولم يستطع المنافقون إخفاء حقدهم فانخذل عبدالله بن اُبي عن رسول الله بثلاثمئة وبقي رسول الله بسبعمئة وكان المشركون أكثر من ثلاثة الآف[27].

وعند جبل أحد وضع النبي (صلى الله عليه وآله) خطة محكمة ليضمن النصر المؤزر ثم قام (صلى الله عليه وآله) فخطب الناس قائلاً: « أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثمّ إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط فإنّ جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلاّ من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإنّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمرِ العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر»[28].

واصطف المشركون للقتال الذي سرعان ما نشب ولم يمض زمن طويل حتى ولّت قوى الشرك الأدبار، وكادت نساؤهم أن تقع بأيدى المسلمين سبايا، وبدا انتصار المسلمين واضحاً في ساحة المعركة حتى وسوس الشيطان في نفوس بعض الرماة الذين وضعهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) فوق الجبل وأمرهم بعدم ترك مكانهم مهما كانت نتيجة المعركة حتّى يتلقّوا أمراً جديداً منه فَعَصَوْا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتركوا مواقعهم سعياً وراء الغنائم فكرّت قوى الشرك ثانية بقيادة خالد بن الوليد من موقع الثغرة التي نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تركها.

فذهل المسلمون لذلك وتفرّقت جموعهم وعادت فلول قريش المنهزمة الى الحرب وقتل عدد كبير من المسلمين وأشاع المشركون نبأ مقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكادت كتائب الشرك أن تصل الى النبي (صلى الله عليه وآله) لولا استبسال علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسهل بن حنيف وقلة قليلة ثبتت في ساحة المعركة إذ فرّت البقية الباقية من المسلمين بما فيهم كبار الصحابة[29]، حتى أن بعضهم بدرت منه فكرة التبرّي من الإسلام فقال: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن اُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان[30].

واستشهد حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي (صلى الله عليه وآله) وتعرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) للإصابة فكسرت رباعيته السفلى وشقت شفته وسال الدم على وجهه فجعل يمسحه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم الى الله[31] وقاتل (صلى الله عليه وآله) حتى صارت قوسه شظايا. وطعن اُبي بن خلف حين هجم عليه يريد قتله (صلى الله عليه وآله) ومات اُبي على أثرها واستبسل علي ابن أبي طالب بصورة لا نظير لها وهو يفرق كل من يتقدم نحو رسول الله ويهده بسيفه فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله هذه المواساة، فقال (صلى الله عليه وآله): «إنه مني وأنا منه». فقال جبرئيل: وأنا منكما، فسمعوا صوتاً يقول: «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي»[32].

وانسحب الرسول (صلى الله عليه وآله) والبقية الباقية معه من المسلمين الى الجبل وهدأت المعركة وجاء أبو سفيان يستهزئ ويسخر بالمسلمين قائلاً: اعل هبل. وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرد على الكفر مظهراً بذلك عدم انكسار العقيدة رغم الانكسار في ساحة المعركة فقال قولوا: «الله أعلى وأجل».

وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالردّ ثانية على شعار أبي سفيان الكافر حين قال: نحن لنا العزّى ولا عزّى لكم فقال (صلى الله عليه وآله): قولوا «الله مولانا ولا مولى لكم»[33].

ورجع المشركون إلى مكّة وقام النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون بدفن الشهداء فهالهم المنظر الفظيع الذي تركته قريش فقد مثّلت بجثث الشهداء. ولما أبصر النبي (صلى الله عليه وآله) حمزة بن عبد المطلب ببطن الوادي وقد اُخرج كبده ومُثّل به بوحشية وحقد; حزن حزناً شديداً وقال: ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا.

ولم تكن التضحيات الجسام والخسارة الكبيرة في ساحة المعركة لتثني أهل العقيدة والرسول القائد (صلى الله عليه وآله) عن الاستمرار في الدفاع عن حياض الإسلام وكيان الدولة الفتية، ففي اليوم التالي من رجوعهم إلى المدينة أمر النبي (صلى الله عليه وآله) باستنفار المسلمين لطلب العدو ومطاردته على أن لا يخرج إلاّ من حضر الغزوة فخرج المسلمون على ما بهم من جُراح إلى منطقة حمراء الأسد وبهذا اتّبع الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) اسلوباً جديداً لإرعاب العدو، ممّا جعل الخوف يسيطر عليهم فأسرعوا في مسيرهم نحو مكّة[34] ورجع النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمون إلى المدينة وقد استردوا كثيراً من معنوياتهم.

 

6 ـ محاولات الغدر بالمسلمين :

كان من الطبيعي في مجتمع تحكمه القوة والغلبة بالسيف أن يطمع المشركون في المسلمين بعد النكسة في اُحد، لكن النبي القائد (صلى الله عليه وآله) كان يقظاً ومدركاً لكل المتغيرات حريصاً على سلامة الرسالة وقوّتها مجتهداً في بناء الدولة والمحافظة عليها، فكان يتحسّس الأخبار ويستطلع النوايا ويسرع في الرّد قبل أن يدرك المشركون أهدافهم فخرجت سرية أبي سلمة ترد غدر بني أسد بالمدينة ونجحت السرية في مهمتها[35] وتمكن المسلمون أيضاً من رد كيد مشرك كان يعدّ لغزو المدينة.

وقد تمكنت جماعة من المشركين من الغدر بالمسلمين حين قدم جمع من قبيلتي «عضل» و«القارة» إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تطلب من يفقّهها الدين واستجاب نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله) سعياً منه لنشر الرسالة الاسلامية ولكن يد الغدر فتكت بالمسلمين الدعاة عند منطقة «ماء الرجيع». وقبل أن يبلغ خبر مصرعهم إلى النبي(صلى الله عليه وآله) اقترح أبو براء العامري على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يرسل مبلغين إلى أهل «نجد» يدعون إلى الإسلام بعد أن رفض هو الدخول في الإسلام، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): إني أخشى عليهم أهل نجد.. قال أبو براء: «لا تخف، أنا لهم جار». وقد كان للجوار اعتبار واهمية تعدل النسب في عرف الجزيرة العربية لذا اطمأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) وأرسل وفداً من الدعاة للتبليغ ولكن الغدر طالهم فعدا عليهم عامر بن الطفيل وقبائل بني سليم في منطقة «بئر معونة» وفتكوا بهم ولم يسلم منهم إلا عمرو بن اُمية الذي أطلقوه فعاد إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بالخبر ولكنه في طريقه قتل رجلين ظنّاً منه أنهما من العامريين، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) حزن لذلك وقال له: بئس ما صنعت قتلت رجلين كان لهما مني أمان وجوار، لأدفعنّ ديتهما»[36].

 

7 ـ غزوة بني النضير[37] :

تتابعت النكبات على المسلمين حتى بدى للمنافقين وليهود المدينة أن هيبة المسلمين قد ضاعت، وأراد النبي (صلى الله عليه وآله) بحكمته السياسية أن يحدّد ملامح التصرف الصحيح مع يهود (بني النضير) مبرزاً نواياهم، فاستعان بهم على دفع دية القتيلين. فتلقوه قرب مساكنهم مرحّبين به وبجماعة من المسلمين وهم يضمرون السوء، فطلبوا منه الجلوس ريثما يحققون له طلبه. فجلس مستنداً إلى جدار بيت من بيوتهم فأسرعوا ـ مستغلّين الفرصة ـ لإلقاء حجر عليه وقتله، فهبط الوحي عليه يخبره، فانسلّ من بينهم تاركاً الصحابة معهم، فاضطرب بنو النضير وأمسوا في حيرة من أمرهم وباتوا قلقين بشدة من سوء فعلتهم، وأسرع الصحابة الى النبي(صلى الله عليه وآله) في المسجد يستطلعون سرّ عودته فقال (صلى الله عليه وآله) : «همّت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله بذلك فقمت»[38].

وبذلك استحلّ الله دماءهم إذ نقضوا عهد الموادعة مع النبي (صلى الله عليه وآله) وهمّوا بالغدر به فلم يكن لهم إلاّ الجلاء عن المدينة. وتدخّل زعيم النفاق عبد الله بن اُبي وغيره يمنّون بني النضير بعدم الامتثال لأمر النبي (صلى الله عليه وآله) والثبات له ووعدهم بأ نّه وجماعته سيمدونهم مقابل النبي (صلى الله عليه وآله) ولن يخذلوهم، وتحصن بنو النضير في حصونهم متمرّدين على أمر النبي (صلى الله عليه وآله).

واستخلف النبي (صلى الله عليه وآله) ابن اُم مكتوم على المدينة حين علم بمساعي المنافقين وخرج لمحاصرة بني النضير واتّبع معهم اسلوباً اضطرّهم إلى التسليم والخروج بما تحمله إبلهم فقط أذلّةً خاسئين[39].

وغنم المسلمون أموالاً وسلاحاً كثيراً ولكن الرسول(صلى الله عليه وآله) جمع المسلمين وعرض عليهم رأيه في أن تكون الغنائم للمهاجرين خاصة كي يتحقّق لهم الاستقلال الاقتصادي إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة وهما من فقراء الأنصار فأعطاهما النبي (صلى الله عليه وآله) من هذه الغنائم[40].

 

8 ـ مناوشات عسكرية بعد اُحد :

ساد الهدوء والاستقرار أجواء المدينة واضطرب المنافقون قلقاً من انكشاف أساليبهم وأيقنوا أن الدور القادم هو دور تحطيمهم. وفي هذا الظرف وردت أخبار للنبي (صلى الله عليه وآله) بأنّ غطفان تعدّ العدّة لغزو المدينة فأسرع النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون في الخروج إليهم ولكنهم فوجئوا بالعدو قد أعدّ واستعدّ لملاقاتهم فتهيّب كل من الفريقين الآخر ولم يقع أي قتال. وفي هذه الغزوة صلى النبي(صلى الله عليه وآله) صلاة الخوف بالمسلمين إذ لم يتسنَّ لهم الغفلة عن العدو برهة من الزمن، وعاد المسلمون إلى المدينة دون قتال[41]، وسميت هذه الغزوة بـ (ذات الرقاع).

 

بدر الموعد ( بدر الصفراء )

مرّت الأيام الحرجة على المسلمين بسرعة وقد ازدادوا خبرة قتالية وتنزّلت عليهم أحكام الشريعة فتهذّبت العلاقات وانتظمت شؤون حياتهم في عامة جوانبها وازداد الإيمان رسوخاً وثباتاً وبرزت نماذج رائعة من الصمود والتضحية والفداء والإخلاص للدين الإسلامي وللاُمة المسلمة وأوشكت أن تنمحي آثار الانكسار في اُحد. وحلّ موعد التهديد الذي أطلقه زعيم الكفر أبو سفيان في اُحد حين قال: موعدنا وموعدكم بدر، قاصداً الانتقام لقتلى المشركين يوم بدر. فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه وعسكر هناك ثمانية أيام ولم تفلح مساعي المشركين لتخويف المسلمين وثنيهم عن الخروج بل تملّـكهم الخوف حين علموا بما عزم عليه النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون فاضطر أبو سفيان إلى أن يخرج إلى الموعد المحدد ولكنه كرّ راجعاً بحجّة الجفاف والجدب المؤثر على الاستعداد العسكري. وبذلك وصمت قريش بعار الهزيمة والجبن وارتفعت معنويات المسلمين واستردّوا عافيتهم ونشاطهم.

وبعد فترة قليلة أفادت الأخبار بأنّ سكان دومة الجندل يقطعون الطريق ويتجهزون لغزو المدينة، فخرج اليهم النبي(صلى الله عليه وآله) بألف من المسلمين للقائهم، وما أن سمعوا بخروجه إليهم حتّى لاذوا بالفرار مخلّفين وراءهم ما كان معهم من غنائم فاستولى عليها المسلمون دون قتال[42].

 

9 ـ غزوة بني المصطلق ودور النفاق :

ووردت أخبار جديدة تفيد بأن الحارث بن أبي ضرار ـ زعيم بني المصطلق ـ يعدّ لغزو المدينة فاستوثق النبي (صلى الله عليه وآله) ـ كعادته قبل كل تحرك ـ من صدق الخبر وندب المسلمين فخرجوا إليهم والتقوا عند ماء يدعى «المريسيع» ونشبت الحرب ففر المشركون بعد قتل عشرة اشخاص منهم، وغنم المسلمون غنائم كثيرة وسُبيت أعداد كبيرة من عوائل بني المصطلق، كانت من بينهم جويرية بنت الحارث فأعتقها النبي (صلى الله عليه وآله) ثم تزوجها، وأطلق المسلمون ما في أيديهم من الأسرى إكراماً لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ولها[43].

وفي هذه الغزوة كادت أن تقع فتنة بين المهاجرين والأنصار بسبب بعض النعرات القبليّة ولما علم النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك قال «دعوها فإنها فتنة»[44]. وأسرع عبد الله بن اُبي رأس النفاق يبتغي الفتنة ويؤجج الخلاف فوجّه اللّوم لمن حوله من أهل المدينة إذ آووا ونصروا المهاجرين ثم قال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، وكادت أن تفلح مساعى ابن اُبي لولا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) ـ بعد أن توثق من تحريض ابن أبيّ ونفاقه ـ أمر بالعودة إلى المدينة على وجه السرعة رافضاً رأي عمر بن الخطاب بقتل ابن اُبي فقال (صلى الله عليه وآله): «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟! لا»[45]. ولم يأذن النبي (صلى الله عليه وآله) بالاستراحة في الطريق فسار بالمسلمين يوماً وليلة ثم أذن لهم بالاستراحة فأخلد الجميع للنوم من شدة التعب ولم تتح فرصة للتحدث وتعميق الخلاف. وعلى أبواب المدينة طلب عبد الله بن عبد الله بن اُبي الإذن من النبي (صلى الله عليه وآله) في قتل أبيه بيده دون أحد من المسلمين خشية أن تثيره العاطفة فيثأر لأبيه فقال نبي الرحمة(صلى الله عليه وآله): «بل نترفق به ونحسن صحبته مابقي معنا». ثم وقف عبدالله (الأبن) ليمنع أباه من دخول المدينة إلاّ بإذن من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)[46]، وفي هذا الظرف نزلت سورة المنافقين لتفضح سلوكهم ونواياهم.

 

10 ـ إبطال أعراف جاهلية :

برحمته الفياضة وبطيب قلبه المفعم حباً للإنسانية وقف النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وقال لقريش: «يا من حضر إشهدوا أن زيداً هذا ابني»[47]. وانتقل زيد من رقّ العبودية إلى بنوة أكرم خلق الله وآمن زيد بالنبي المرسل (صلى الله عليه وآله) من أول أيام البعثة المباركة ايماناً صادقاً. ومضت الأيام حتى بلغ زيد مرحلة الرجولة في ظل رعاية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبجرأة الثائر العظيم والمصلح الكبير اختار النبي (صلى الله عليه وآله) زينب بنت جحش (ابنة عمته) زوجاً لزيد، فامتنعت أن تتنازل عن مكانتها الاجتماعية ونسبها الرفيع لتتزوج رجلاً سبق له أن كان رقّاً. ولكن إيمانها الصادق دفعها لتستجيب لأمر الله تعالى حيث يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)[48].

وبذلك ضرب الرسول (صلى الله عليه وآله) مثالاً رائعاً للقضاء على الأعراف الجاهلية البالية تطبيقاً لقيم الرسالة الخالدة. ولكن تفاوت الثقافة وتنافر الطباع حالا دون نجاح تجربة رائدة في مجتمع كان لا يزال يعاني من ترسّبات الجاهلية وتدخل النبي(صلى الله عليه وآله) ليصلح ما فسد محاولاً أن لا يصل إلى طريق مسدود فقال لزيد: (أمسك عليك زوجك واتق الله) وتكررت شكوى زيد من زينب فكان آخرها الطلاق.

ثم نزل الأمر الإلهي ليبطل ما تعارف عليه العرب من اعتبار الأدعياء (من ادعي بنوّتهم) أبناءً فقال تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)[49]، وأبقى لهم حقّ الموالاة والاُخوة في الدين.

وأراد الله سبحانه أن ينسف هذا العُرف الباطل فأمر نبيه(صلى الله عليه وآله) أن يتزوج زينب بعد طلاقها من زيد، وإكمال عدّتها بعد أن نزلت الآيات الكريمة تحثّ النبي(صلى الله عليه وآله) على إبطال هذا العرف الجاهلي وأن لا يخشى الناس بل يمضي في تطبيق أحكام الله تعالى بكل شجاعة[50].

[1] راجع المغازي للواقدي: 1 / 48، السيرة الحلبية: 2 / 160، وبحار الأنوار: 19 / 217.

[2] الانفال (8): 7 ـ 16.

[3] برك الغماد : موضع وراء مكة مما يلي البحر.

[4] المغازي: 1 / 48 ـ 49.

[5] الانفال (8): 65.

[6] راجع المغازي: 1 / 50.

[7] المغازي: 1 / 61، بحار الانوار: 19 / 252.

[8] المغازي: 1 / 68.

[9] إعلام الورى: 1 / 169، السيرة النبوية: 1 / 628.

[10] إعلام الورى: 1 / 171، السيرة النبوية: 1 / 638.

[11] المغازي: 1 / 104، السيرة النبوية: 1 / 642.

[12] السيرة النبوية: 1 / 652، البحار: 19 / 348.

[13] الانفال (8): 9، 11، 12 ، 42، 44، وآل عمران (3): 13 و123 و127.

[14] الارشاد : 39 ـ 40 .

[15] المناقب : 3 / 120 .

[16] حياة النبي وسيرته: 1 / 309، نقلاً عن المنتقى للكازروني اليماني.

[17] كشف الغمة : 1 / 356 ـ 358.

[18] كشف الغمة: 1 / 359.

[19] كشف الغمة: 1 / 362، مناقب آل أبي طالب: 3 / 355.

[20] المغازي: 1 / 174.

[21] المصدر السابق : 1 / 172.

[22] السيرة النبوية: 2 / 51.

[23] المغازي: 1 / 176.

[24] وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة.

[25] السيرة النبوية: 2 / 23، المغازي: 1 / 214.

[26] الطبقات لابن سعد: 2 / 39.

[27] الطبري: 3 / 107.

[28] المغازي: 1 / 221.

[29] المغازي: 1 / 237، السيرة النبوية: 2 / 83 ، شرح نهج البلاغة: 15 / 20.

[30] بحار الأنوار : 20 / 27. وقد وردت آيات القرآن تبين القتال ونوازع المسلمين في سورة آل عمران: 3 / 121 ـ 180.

[31] تاريخ الطبري : 3 / 117 ، بحار الأنوار: 20 / 102.

[32] تأريخ الطبري: 3 / 116، مجمع الزوائد: 6 / 114، بحار الأنوار: 20 / 71.

[33] السيرة النبوية: 2 / 94.

[34] السيرة النبوية: 2 / 102، الطبقات الكبرى: 2 / 49.

[35] المغازي: 1 / 340.

[36] السيرة النبوية 3 : 193 ـ 195 .

[37] وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة .

[38] الطبقات الكبرى: 2 / 57 ، امتاع الاسماع: 1 / 187.

[39] وصفت سورة الحشر احداث جلاء بني النضير.

[40] الارشاد: 47.

[41] راجع السيرة النبوية: 2 / 204.

[42] السيرة النبوية لابن كثير: 3 / 177، الطبقات الكبرى: 2 / 62.

[43] تاريخ الطبري: 3 / 204، امتاع الاسماع: 1 / 195.

[44] السيرة النبوية: 1 / 290.

[45] امتاع الأسماع: 1 / 202.

[46] راجع السيرة النبوية: 2 / 292.

[47] أسد الغابة: 2 / 235، الاستيعاب مادة: زيد.

[48] الأحزاب (33): 36.

[49] الأحزاب (33) : 4.

[50] راجع سورة الأحزاب (33) : 37 ـ 40 ، وراجع تفسير الميزان: 16 / 290 ، مفاتيح الغيب: 25 / 212 ، روح المعاني: 22 / 23.

الصفحة الرئيسية

صفحة السراج المنير

admin@albehari.net