إنّ الحقبة
الزمنية التي نشط فيها الإمام الصادق(عليه السلام) لإرساء
دعائم منهج أهل البيت(عليهم السلام) ورسم خطوطه التفصيلية تبلغ
ثلاثة عقود ونصف عقد تقريباً.
وقد تميّزت
بأنها كانت تعاصر نهايات الدولة الاُموية وبدايات الدولة
العباسية وهي فترة ضعف الدولتين سياسيّاً وبالتالي كانت فرصة
متميّزة وفريدة لنشر الوعي والثقافة الإسلامية الأصيلة. وقد
عرف أتباع أهل البيت(عليهم السلام)بأنهم أتباع وشيعة جعفر بن
محمد الصادق(عليه السلام)، ووسم الشيعي بأنه جعفري; ولهذا
الوسام دلالته التأريخية ومغزاه الثقافي.
من هنا نعرف
السرّ في عظمة التراث الذي خلّفه لنا الإمام الصادق(عليه
السلام) ومدى سعته وثرائه في جانبي الكّم والكيف معاً، الى
جانب كثرة من تتلمذ على يدي الإمام أبي عبدالله الصادق(عليه
السلام) ممّن حمل تراثه ورواه الى الأجيال المتعاقبة. وبهذا
الصدد ينقل لنا الشيخ المظفر جملة من الاشادات والتصاريح التي
أدلى بها كبار رواة أهل السنّة وعلمائهم بفضل الإمام الصادق
ورجوع أئمة المذاهب وأهل الحديث إليه، وإليك بيانها.
«كان
رواة أبي عبدالله(عليه السلام) أربعة آلاف أو يزيدون كما أشرنا
إليه غير مرّة، قال الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد: فإنّ
أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على
اختلافهم في الآراء والمقامات، فكانوا أربعة آلاف رجل
[1] . وذكر ابن شهراشوب أن
الجامع لهم ابن عقدة وزاد غيره أن ابن عقدة ذكر لكلّ واحد منهم
رواية، وأشار الى عددهم الطبرسي في أعلام الورى، والمحقق
الحلّي في المعتبر، وذكر اسماءهم الشيخ الطوسي طاب رمسه في
كتاب الرجال.
ولا يزيده
كثرة الرواة عنه رفعة وجلالة قدر، وإنّما يزداد الرواة فضلاً
وعلوّ شأن بالرواية عنه، نعم إنّما يكشف هذا عن علوّ شأنه في
العلم وانعقاد الخناصر على فضله من طلاّب العلم والفضيلة على
اختلافهم في المقالات والنِحل.
أخذ عنه عدّة
من أعلام السنّة وأئمتهم ، وما كان أخذهم عنه كما يأخذ التلميذ
عن الاُستاذ، بل لم يأخذوا عنه إلاّ وهم متّفقون على إمامته
وجلالته وسيادته، كما يقول الشيخ سليمان في الينابيع، والنووي
في تهذيب الأسماء واللغات، بل عدّوا أخذهم عنه منقبة شرّفوا
بها، وفضيلة اكتسبوها كما يقول الشافعي في مطالب السؤل، ونحن
اولاء نورد لك شطراً من اُولئك الأعلام.
أبو حنيفة:
منهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي من الموالي وأصله من
كابل ولد بالكوفة، وبها نشأ ودرس، وكانت له فيها حوزة وانتقل
الى بغداد وبها مات عام 150، وقبره بها معروف، وهو أحد المذاهب
الأربعة عند أهل السنّة، وحاله أشهر من أن يذكر.
وأخذه عن
الصادق(عليه السلام) معروف، وممّن ذكر ذلك الشبلنجي في نور
الأبصار، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في الينابيع ،
وابن الصبّاغ في الفصول، الى غير هؤلاء ، وقال الآلوسي في
مختصر التحفة الاثني عشرية (ص8) : وهذا أبو حنيفة وهو هوبين
أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: «لولا السنتان لهلك
النعمان» يريد السنتين اللتين صحب فيها ـلأخذ العلم ـ الإمام
جعفر الصادق(عليه السلام).
مالك بن أنس:
ومنهم مالك بن أنس المدني أحد المذاهب الأربعة أيضاً، قال ابن
النديم في الفهرست: هو ابن أبي عامر من حمير وعداده في بني تيم
بن مرّة من قريش، وحمل به ثلاث سنين، وقال : وسعى به الى جعفر
بن سليمان العبّاسي وكان والي المدينة فقيل له: إنّه لا يرى
ايمان بيعتكم. فدعى به وجرّده وضربه أسواطاً ومدّده فانخلع
كتفه وتوفى عام (179 هـ ) عن (84) سنة، وذكر مثله ابن خلكان.
وأخذه عن أبي
عبدالله(عليه السلام) معلوم مشهور، وممّن أشار الى ذلك النووي
في التهذيب، والشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة ،
والشافعي في المطالب، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في
الينابيع ، وأبو نعيم في الحلية، وابن الصبّاغ في الفصول، الى
ما سوى هؤلاء.
سفيان الثوري:
ومنهم سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، ورد بغداد عدّة
مرّات، وروى عن الصادق(عليه السلام) جملة أشياء، وأوصاه الصادق
باُمور ثمينة مرّت في الوصايا ، وناظر الصادق في الزهد كما سلف،
وارتحل الى البصرة وبها مات (161 هـ )، وولادته في نيف وتسعين
، قيل شهد وقعة زيد الشهيد وكان في شرطة هشام بن عبدالملك.
جاء أخذه عن
الصادق(عليه السلام) في التهذيب، ونور الأبصار، والتذكرة،
والمطالب، والصواعق، والينابيع، والحلية، والفصول المهمة،
وغيرها، وذكره الرجاليون من الشيعة في رجاله(عليه السلام) .
سفيان بن
عيينة: ومنهم سفيان بن عيينة بن أبي عمران الكوفي المكّي ولد
بالكوفة عام (107 هـ ) ومات بمكّة عام (198 هـ ) ، ودخل الكوفة
وهو شاب على عهد أبي حنيفة.
ذكر أخذه عن
الصادق(عليه السلام) في التهذيب، ونور الأبصار ، والمطالب،
والصواعق، والينابيع، والحلية، والفصول، وما سواها، وذكر ذلك
الرجاليون من الشيعة أيضاً.
يحيى بن سعيد
الأنصاري: ومنهم يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري من بني النجّار
تابعي، كان قاضياً للمنصور في المدينة، ثم قاضي القضاة، مات
بالهاشميّة عام (143 هـ ).
انظر المصادر
المتقدّمة في روايته عن الصادق(عليه السلام) وما عداها كما ذكر
ذلك الرجاليّون من الشيعة .
ابن جريح:
ومنهم عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح المكّي، سمع جمعاً كثيراً
من العلماء، وكان من علماء العامّة، الذين يرون حلية المتعة
كما رأى حلّيتها آخرون منهم، وجاء في طريق الصدوق في باب ما
يُقبل من الدعاوى بغير بيّنة، وجاء في الكافي في باب ما أحلّ
الله من المتعة سؤال أحدهم من الصادق(عليه السلام) عن المتعة
فقال: «الق عبدالملك بن جريح فاسأله عنها فإنّ عنده منها علماً»،
فأتاه فأملى عليه شيئاً كثيراً عن المتعة وحلّيتها.
وقال ابن
خلكان : عبدالملك أحد العلماء المشهورين، وكانت ولادته سنة (80
هـ ) وقدم بغداد على أبي جعفر المنصور، وتوفى سنة (149 هـ )
وقيل (150 هـ ) ، وقيل (151 هـ ).
وذكرت
المصادر السابقة أخذه عن الصادق(عليه السلام)، كما ذكرته رجال
الشيعة.
القطّان:
ومنهم أبو سعيد يحيى بن سعيد القطّان البصري، كان من أئمة
الحديث بل عُدّ محدّث زمانه، واحتجّ به أصحاب الصحاح الستة
وغيرهم، توفى عام (198 هـ ) ، وحكي عن ابن قتيبة عداده في رجال
الشيعة، ولكن الشيعة لا تعرفه من رجالها.
ذكره في رجال
الصادق(عليه السلام) التهذيب، والينابيع، وغيرهما من السنّة،
والشيخ، وابن داود، والنجاشي، وغيرهم من الشيعة.
محمّد بن
إسحاق: ومنهم محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي والسير،
ومدنيّ سكن مكّة، أثنى عليه ابن خلكان كثيراً، وكان بينه وبين
مالك عداء، فكان كلّ منهما يطعن في الآخر، قدم الحيرة على
المنصور فكتب له المغازي.
وقدم بغداد
وبها مات عام (151 هـ ) على المشهور، ذكر أخذه عن الصادق(عليه
السلام) في التهذيب، والينابيع، وغيرهما من السنّة، والشيخ في
رجاله، والعلاّمة في الخلاصة، والكشي في رجاله، وغيرهم من
الشيعة.
شعبة بن
الحجّاج: ومنهم شعبة بن الحجّاج الأزدي كان من أئمة السنّة
وأعلامهم وكان يفتي بالخروج مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن،
وقيل كان ممّن خرج من أصحاب الحديث مع إبراهيم بن عبدالله.
وعدّه في
أصحاق الصادق(عليه السلام) جماعة من السنّة منهم صاحب التهذيب،
والصواعق، والحلية، والينابيع، والفصول، والتذكرة وغيرها،
وذكرته كتب الشيعة في رجاله أيضاً.
أيوب
السجستاني: ومنهم أيوب بن أبي تميمة السجستاني البصري، وقيل
السختياني، والأول أشهر، مولى عمّار بن ياسر وعدّوه في كبار
الفقهاء التابعين، مات عام (131 هـ ) بالطاعون بالبصرة عن (65
هـ ) سنة.
عدّه في رجال
الصادق(عليه السلام) في نور الأبصار، والتذكرة، والمطالب،
والصواعق، والحلية، والفصول، وغيرها، وذكرته كتب رجال الشيعة
في أصحابه أيضاً.
وهؤلاء
بعض من نسبوه الى تلمذة الصادق(عليه السلام) من أعلام السنّة
وفقهائهم البارزين، وقد عدّوا غير هؤلاء فيهم أيضاً، انظر في
ذلك حلية الأولياء، على أن غير أبي نعيم أشار الى غير هؤلاء
بقوله وغيرهم، أو ما سوى ذلك ممّا يؤدّي هذا المفاد»
[2]
[3] .
إنّ الحضارة
الإنسانية اليوم ـ بما فيها الحضارة الاُوربيّة ـ مدينة الى
تراث الإمام الصادق(عليه السلام) بشكل خاص، باعتبار عنايته
الفائقة بجملة من العلوم الطبيعية التي لاحظنا نماذج منها خلال
بحوث هذا الكتاب.
إن التراث
الذي جمعه علماء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) والذي رووه عن
الإمام الصادق(عليه السلام) يفوق تراث كلّ واحد من المعصومين
من حيث الكمّ ومن حيث الاهتمام بشتّى العلوم الإنسانية
والطبيعية جميعاً.
وقد وقفنا
على شيء من اهتماماته الواسعة في بحوث سبقت في هذا الكتاب ،
مثل: جامعة أهل البيت(عليهم السلام) والجماعة الصالحة. وإتماماً
للفائدة واتّساقاً مع سائر أجزاء هذه الموسوعة سوف نلمّ بطرف
آخر من رواياته وتراثه في شتّى فروع المعرفة الإسلامية.
[1]
الارشاد للمفيد: 271 .
[2]
الإمام الصادق(عليه السلام) ، محمد حسين المظفر: 127 ـ 130 .
[3]
ورغم اعترافات علماء أهل السنّة وأشاداتهم بالإمام الصادق(عليه
السلام) وانّ أئمة مذاهبهم وكبار علمائهم قد تتلمذوا على يديه
ونقلت الرواة ما يملئ الخافقين من الأحاديث ، نجد البخاري الذي
يروي للخوارج والفساق والمجاهيل لم يرو عن الإمام جعفر بن محمد
الصادق(عليه السلام) ولا حديثاً واحداً .
|