حين تولّى
الحكم أبو جعفر المنصور بعد أخيه أبي العباس السفّاح سنة ( 136
هـ ) عبّر عن مكنون حقده على الإمام الصادق (عليه السلام)
وصحبه من العلويين وغيرهم، وقال عنه المؤرّخون: وكان المنصور
خدّاعاً لا يتردّد في سفك الدماء وكان سادراً في بطشه مستهتراً
في فتكه[1].
ووصفه ابن
هبيرة وهو أحد معاصريه بقوله: مارأيت رجلا في حرب أو سلم أمكر
ولا أنكر ولا أشدّ تيقّظاً من المنصور[2]
.
لقد بادر
المنصور إلى قتل أبي مسلم الخراساني الذي كان يبغضه، وأبو مسلم
هو القائد الأوّل للإنقلاب العبّاسي، وذلك بعد أن أعدّ له
المنصور مكيدة وأغراه بالمجيء إلى بغداد . وجرّده من جميع
مناصبه العسكرية.
ولمّا دخل أبو
مسلم الخراساني على المنصور قابله بقساوة بالغة وأخذ يعدّد
عليه أعماله وأبو مسلم يعتذر عن ذلك .
ثمّ صفّق
المنصور عالياً حسب الاتّفاق مع حرّاسه لتكون الصفقة بمثابة
ساعة الصفر ، فدخل الحرّاس وبأيديهم السيوف فقال : أبو مسلم
للمنصور متوسّلا استبقني لعدوّك. فصاح به: وأيّ عدو أعدى لي
منك ؟!
وبمثل هذا
الاسلوب أيضاً قد غدر بعمّه عبد الله بن علي حيث ارسل عليه بعد
أن أعطاه الأمان ثم قتله بعد ذلك[3]
.
أما مخطّطه
الخبيث ضدّ الإمام الصادق(عليه السلام) ونهضته الإسلاميّة بشكل
عام فقد أخذ ثلاثة اتّجاهات :
الاتّجاه الأول
:
اتّخذ المنصور
في هذا الاتّجاه اسلوباً مرناً محاولا فيه الاستفادة من جهد
الإمام (عليه السلام) واحتوائه ضمن سياسة الخلافة العباسية فقد
كتب إليه: « لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟
فأجابه الإمام (عليه
السلام): «ليس لنا ما نخافك ولا عندك من أمر الآخرة مانرجوك له
، ولا أنت في نعمة فنهنّـئك بها ولا تراها نقمة فنعزّيك بها ،
فما نصنع عنك !؟»
فكتب اليه :
تصحبنا لتنصحنا .
فأجابه (عليه
السلام): «من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك».
قال :
المنصور : والله لقد ميّز عندي منازل الناس ، من يريد الدنيا
ممن يريد الآخرة وإنه ممّن يريد الاخرة لا الدنيا[4]
.
ومن أساليب
المنصور مع الإمام(عليه السلام) في هذا الاتّجاه ما جاء عن عبد
الوهّاب عن أبيه حيث قال :
بعث أبو جعفر
المنصور إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد(عليه السلام) وأمر
بفرش فطرحت له إلى جانبه ، فأجلسه عليها ثم قال عليّ بمحمد،
عليَّ بالمهدي. فأقبل المنصور على جعفر (عليه السلام) فقال :
يا أبا عبد الله حديث حدّثتنيه في صلة الرحم ، اذكره، يسمعه
المهدي .
قال : «نعم
، حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عن علي (عليه السلام) قال،
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ان الرجل ليصل رحمه
وقد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيصيرها الله عزّ وجّل ثلاثين سنة
ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة ، فيصيرها الله ثلاث سنين»
ثم تلا(عليه السلام): (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم
الكتاب)[5]
.
قال : هذا حسن
يا أبا عبد الله ، وليس إيّاه أردت، قال أبو عبد الله (عليه
السلام): نعم حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن عليّ (عليه السلام)
قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): صلة الرحم تعمّر
الديار وتزيد في الاعمار وان كان أهلها غير أخيار».
قال هذا حسن يا
أبا عبد الله ، وليس هذا أردت .
فقال أبو عبد
الله (عليه السلام): «نعم حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن علي (عليه
السلام) قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلة الرحم
تهوّن الحساب وتقي ميتة السوء ».
قال
المنصور : نعم إيّاه أردت[6]
.
إنّ السلاطين
يخافون الموت ، فالإمام (عليه السلام) ركّز على هذه الناحية
وربطها بصلة الرحم لتعالج الحقد والكيد الذي يشغل ذهن المنصور
ضدّ الإمام والعلويين من أهل بيته ، لذا أكّد (عليه السلام) عن
طريق الأحاديث بأن طول العمر يرتبط بصلة الرحم .
الاتّجاه
الثاني:
كما تحرّك
المنصور بقوة نحو الإمام (عليه السلام) عن طريق نشر عيونه
وجواسيسه التي كانت تراقب حركة الإمام الصادق وترصد نشاطاته
لتزوّده بآخر المعلومات، ليتّخذ منها مسوّغاً للنيل من
الإمام(عليه السلام) والتضييق على حركته التي كان يرى فيها
المنصور خطراً حقيقياً على سلطانه وبالتالي تمهّد له تلك
التقارير أن يصوغ ما يريده من الاتّهامات لأجل أن يتخذها ذريعة
في قتله. وقد تضمّن هذا الاتّجاه جملة من الاساليب .
الاسلوب الأول :
عن رزام بن مسلم مولى خالد القسري قال : بعثني أبو جعفر
المنصور إلى المدينة ، وأمرني إذا دخلت المدينة أن أفضّ الكتاب
الّذي دفعه إليّ وأعمل بما فيه ; قال : فما شعرت إلاّ بركب قد
طلعوا عليَّ حين قربت من المدينة ، وإذا رجل قد صار إلى جانبي
، فقال : يا رزام اتق الله ، ولا تشرك في دم آل محمّد قال :
فأنكرت ذلك فقال لي : دعاك صاحبك نصف الليل ، وخاط رقعة في
جانب قباك ، وأمرك إذا صرت إلى المدينة ، تفضها وتعمل بما فيها
.
قال :
فرميت بنفسي من المحمل ، وقبّلت رجليه ، وقلت : ظننت أن ذلك
صاحبي وأنت يا سيّدي صاحبي ، فما أصنع ؟ قال : ارجع إليه ،
واذهب بين يديه وتعال ، فإنه رجل نسّاء ، وقد أُنسي ذلك ، فليس
يسألك عنه، قال : فرجعت إليه ، فلم يسألني عن شيء ، فقلتصدق
مولاي[7]
.
وعن مهاجر بن
عمار الخزاعي ، قال : بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة ، وبعث
معي بمال كثير ، وأمرني أن أتضرّع لأهل هذا البيت ، وأتحفّظ
مقالتهم، ، قال : فلزمت الزاوية التي مما يلي القبلة ، فلم أكن
أتنحّى منها في وقت الصلاة ، لا في ليل ولا في نهار .
قال: وأقبلت
أطرح إلى السؤال الذين حول القبر الدارهم ومن هو فوقهم الشيء
بعد الشيء حتى ناولت شباباً من بني الحسن ومشيخة]منهم[حتى
ألفوني وألفتهم في السّر .
قال : وكنت كلما
دنوت من أبي عبد الله (عليه السلام) يُلاطفني ويكرمني حتى إذا
كان يوماً من الايام ـ بعد ما نلت حاجتي ممن كنت أريد من بني
الحسن وغيرهمـ دنوت من أبي عبد الله (عليه السلام) وهو يُصلّي
، فلما قضى صلاته ، التفت إليّ وقال :
تعال يا مهاجر !
ـ ولم أكن أتسمّى ] با سمي [ ولا أتكنّى بكنيتي ـ فقال : قل
لصاحبك : يقول لك جعفر : «كان أهل بيتك إلى غير هذا أحوج منهم
إلى هذا ، تجيء إلى قوم شباب محتاجين فتدسّ إليهم ، فلعلّ
أحدهم يتكلّم بكلمة تستحلُّ بها سفك دمه ، فلو بررتهم ووصلتهم
] وانلتهم [ واغنيتهم ، كانوا إلى هذا أحوج مما تريد منهم ».
قال :
فلما أتيت أبا الدوانيق ، قلت له : جئتك من عند ساحر، كذّاب
كاهن كان من أمره كذا وكذا فقال : صدق والله لقد كانوا إلى غير
هذا أحوج ، وإيّاك أن يسمع هذا الكلام منك انسان[8] .
الاُسلوب الثاني:
ومن اساليبه باتّجاه سياسة التضييق التي فرضها على الإمام (عليه
السلام) محاولة تسليط الضوء على بعض الشخصيّات ليجعل منها
بدائل علميّة تغطّي على الإمام وتؤيّد سياسته وتساهم من جانب
آخر في تضعيف القدسية والانجذاب الجماهيري نحو الإمام وتؤدّي
بالنتيجة إلى شق وحدة التيار الاسلامي الذي يقرّ بزعامة
الإمام(عليه السلام) وأعلميته وايجاد الفرقة والاختلاف .
وقد نجح المنصور
بهذه الخطوة فكسب البعض من طلاّب الإمام(عليه السلام) حين
أحاطهم بهالة من الاحترام والتقدير وخلق منهم وجوداً قبال مذهب
الإمام ونهجه الاسلامي الاصيل .
ذكر أبو القاسم
البغّار في مسند أبي حنيفة فقال: قال الحسن بن زياد سمعت أبا
حنيفة وقد سئل : من أفقه من رأيت ؟ قال جعفر بن محمد ، لمّا
أقدمه المنصور بعث إليّ ، فقال يا أبا حنيفة ! ان الناس قد
فتنوا بجعفر بن محمد فهيّء له من مسائلك الشداد .
فهيّأت له
أربعين مسألة ، ثم بعث إليَّ أبي جعفر وهو بالحيرة فأتيته .
فدخلت عليه ،
وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر
مالم يدخل لأبي جعفر ، فسلّمت عليه ، فأومى إليّ فجلست ، ثم
التفت إليه ، فقال :
يا أبا عبد الله
: هذا أبو حنيفة ، قال: نعم أعرفه . ثم التفت إليّ فقال :
ياأبا حنيفة ألق على أبي عبد الله (عليه السلام) من مسائلك .
فجعلت
ألقي عليه فيجيبني ، فيقول : « أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة
يقولون كذا ونحن نقول كذا » فربما تابعنا ، وربما تابعهم ،
وربما خالفنا جميعاً . حتى أتيت على الاربعين مسألة ، فما أخلّ
منها بشيء ثم قال أبو حنيفة : أليس إنّ أعلم الناس أعلمهم
باختلاف الناس؟![9]
.
الاُسلوب الثالث:
لقد كانت سياسة الإمام (عليه السلام) ازاء حكومة المنصور ذات
طابع غير ثوري ، وإنما سلك الإمام نفس نهجه السابق في التغيير
والاصلاح ، وقد أوحى للمنصور في وقت سابق بأنه لم يكن بصدد
التخطيط للثورة ضدّه بل صرّح له في اكثر من مرة بذلك، إلاّ أن
المنصور لم يطمئن لعدم تحرك الإمام وثورته التغييرية وذلك بسبب
ما كان يشاهده من كثرة مؤيديه.
يحدثنا الإمام
الصادق(عليه السلام) عن الشكوك والتساؤلات التي أثارها المنصور
بوجه الإمام عند لقائه به كما في النصّ التالي:
عن حمران قال :
«قال أبو عبد الله (عليه السلام) وبعد ذكر هؤلاء عنده وسوء حال
الشيعة عندهم فقال : «إني سرت مع أبي جعفر المنصور وهو في
موكبه ، وهو على فرس وبين يديه خيل ومن خلفه خيل ، وأنا على
حمار إلى جانبه ، فقال لي :
يا أبا عبد الله
! قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة وفتح لنا
من العزّ ، ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر منا وأهل بيتك ،
فتغرينا بك وبهم .
قال : فقلت: «ومن
رفع هذا إليك عنّي فقد كذب». فقال: أتحلف على ما تقول؟
قال : فقلت: «إن
الناس سحرة يحبّون أن يفسدوا قلبك عليّ ، فلا تمكنّهم من سمعك
، فأنا إليك أحوج منك إلينا».
فقال لي : تذكر
يوم سألتك هل لنا ملك ؟ فقلت : نعم طويل عريض شديد ، فلا
تزالون في مهلة من أمركم وفسحة في دنياكم حتى تصيبوا منّا دماً
حراماً في شهر حرام في بلد حرام !
فعرفت أنه
قد حفظ الحديث، فقلت: لعلّ الله ( عزّ وجّل ) أن يكفيك ، فإني
لم أخصك بهذا ، وإنما هو حديث رؤيته، ثم لعلّ غيرك من أهل بيتك
يتولّى ذلك ، فسكت عنيّ[10]
.
[1]
الكامل في التأريخ : 4 / 355 .
[2]
تأريخ اليعقوبي : 2 / 399 .
[3]
تاريخ اليعقوبي: 2/369 وتاريخ الاُمم والملوك : 6 / 266 .
[4]
كشف الغمة : 2/420 عن تذكرة ابن حمدون، وعنه في بحار الأنوار :
47 / 184 .
[5]
الرعد (13): 39 .
[6]
أمالي ابن الشيخ : 480 ح1049 وعنه في بحار الأنوار : 47 / 163
، والبرهان : 2 / 299 .
[7]
دلائل الإمامة : 129 ، ومدينة المعاجز : 364 ، واثبات الهداة :
5 / 456 .
[8]
الخرائج والجرائح : 2 / 646 ، وبحار الانوار : 47 / 172 .
[9]
سير اعلام النبلاء : 9 / 543 ومناقب آل أبي طالب: 4/277 عن
مسند أبي حنيفة لأبي القاسم البغار .
[10]
روضة الكافي: 31 حديث الصادق مع المنصور في موكبه، وعنه في
بحار الأنوار : 52 / 255 ، واثبات الهداة : 5 / 351 .
|